مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

بيت جدي

إنه بيت بالمعنى المجازي للكلمة، فكل بيت في قريتي هو نسخة تقريباً طبق الأصل عن بيت جدي.. فهل هو البيت السوفي؟ 
نعم إنه هو! مع اختلافات طفيفة راجعة لطبيعة المعيشة لأهل البلد. ومن أسباب هاته الاختلافات أن أهل منطقتي تعاملوا مع الأرض زراعةً كنشاط مهني ومعيشي و(يستطيع... المزارعون إنتاج معظم ما يحتاجونه لأنفسهم)، على عكس ذلك من بقية سكان (سوف)، فقد كانوا تجاراً ورعاة. ومن جانب آخر الاحتكاك الكبير الذي كان مع سكان تونس وأهلها بسبب الهجرة إليها أثناء فترة الاحتلال، أما سكان بقية الإقليم فقد هاجروا إلى تونس وليبيا. هذه الظروف وغيرها مجتمعة شكلت البيت السوفي على النمط القماري.
وللعلم فمدينة (قمار) هي رقعة جغرافية في ولاية الوادي بالجمهورية الجزائرية في جنوبها الشرقي على الحدود التونسية، وسكانها ينحدرون من عدد من القبائل العربية وعلى رأس هذه القبائل بنو هلال.
النظام العام: يبني أهل المنطقة بمادة واحدة وهي الجبس وهي مادة سريعة الجفاف وسهلة الاستعمال والتشكيل. ومن يسرها وسرعة جفافها أنهم يبنون البيت في يوم أو يومين على الأكثر إذا كان صغيراً، ومقياسهم الذراع الذي يعدل خمسين سنتمتراً.
ويستعينون بحجر رملي مسنن يسميه السكان (اللوس). ويجعلون السقف قباباً دائرية، أو طويلة يسمونها (الدمس) (مفردها الدمسة). مستندة إلى قضبان حديدية على شكل الحرف اللاتيني T، هذه القباب بأنواعها يرتفع إليها الهواء الساخن فيبقى الهواء البارد في الأسفل، ومن الخارج تقوم بكسر أشعة الشمس فلا تكون عمودية تماماً، وتجعل مياه الأمطار تنزلق فلا تتجمع فوق الدار، خصوصاً وأن الجبس ضعيف أمام المياه فهو يهريه.
وقبل البناء يهتمون بالجهات فما يحتاجونه صيفاً يكون ملتفتاً جهة الشمال، وما يحتاجونه شتاء يكون متجهاً ناحية الجنوب أو الشرق. ويحددون الجهات بمطلع الشمس ومغربها.
وفي المجمل تـبنى الغرف منخفضة وصغيرة لقلة الأثاث من جهة، وللتكييف: التدفئة والتبريد من جهة أخرى.
1 - الباب الخارجي: هو باب خشبي كبير إلى حد ما، قد يصل ارتفاعه إلى المترين ونصف المتر، وعرضه متر ونصف المتر، وفي وسطه باب صغير أقل من قامة الإنسان متوسط الطول مما يضطره إلى الانحناء، وعرضه تقريباً خمسون سنتمتراً مما يضطره إلى التجنب إلى أحد شقيه.
2 - غرفة الاستقبال: يسميها أهل البلدة (دار باب الحوش)، ويسميها بقية سكان الوادي (بالسقيفة) وهي للرجال، وبين باب الشارع وغرفة باب الحوش ممشى يكسر النظرة المتلصصة على الدار فلا ترى شيئاً، فهو زيادة في الستر.
3 - السباط: لا بد أن يكون متجهاً من ناحية الشمال، وله مصرعان كبيران، أو ثلاثة، بحجم الجدار تقريباً، من غير أبواب تـغلق. يستعملونه للجلوس والقيلولة في الصيف..
4 - السويبيط: غرفة متجهة نجو الجنوب لتوفير التدفئة شتاء، وتكون من قبة واحدة في الغالب، يوضع فيها المنسج، الذي ينقل إليه من (السباط). 
5 - غرفة التخزين: تسمى (دار الخابية) وتكون شمالية لأجل البرودة في فصل الصيف لأجل المحافظة على صلاحية الطعام المخزن. 
6 - المطبخ: يسميه أهل المنطقة (دار الكانون) ويتوجه في الغالب ناحية الجنوب، وهو عبارة عن غرفة بقبة واحدة وأحياناً قبتين، متجهة ناحية الجنوب متصل بـ(السوبيط)، وبه مدخنة على تنور يتم فيه إنضاج الطعام على الحطب.
7 - غرف النوم: تبنى الغرف في العادة متجهة لناحية الجنوب لاستقبال الشمس طيلة النهار فتكون دافئة في فصل الشتاء. وتـبنى غرف أخرى متجهة شرقاً بشكل أقل فهي توفر دفئاً في الشتاء، ولكن ليس كالغرف متجهة جنوباً.
8 - البئر المنزلي: لم تكن كل البيوت ذات بئر شخصي إن صح الاستعمال فالذي يتحكم في الأمر هو مساحة البيت.
9 - دورة المياه: تسمى بـ(الخربة) عبارة عن جدار مبني يحيط قطعة من الأرض، غير مسقف. وعند الميسورين يبنون مصطبة في وسطها ثقب لقضاء الحاجة. ويتم إفراغها بالعربات إذ يستعملها الفلاحون في تسميد الأرض. 
10 -الإسطبل: يستعمل لتربية الماعز والدجاج والحمام للاستفادة من ألبانها وبيضها ولحمها. 
11 - الحوش: هو مساحة فارغة وسط الدار تتوسط كل المباني المشكلة للمنزل. ويطلقون كلمة الحوش على المنزل ككل، ويسمون المساحة الفارغة في وسط الدار (وسط الحوش).
12 - المقصورة: هي غرفة صغيرة داخل غرفة، ليس لها باب خارجي، فهي تفتح داخل غرفة. والغرفة الأخرى تفتح لوسط الحوش.
واليوم وقد اقتحمنا الأسمنت والحديد والخرسانة المسلحة، هل صار الظرف لا يناسب البناء بالجبس خصوصاً مع ما تشهده المنطقة من ارتفاع للمياه الجوفية، فلم تعد المنطقة جافة كما كانت وحتى الغيطان كثير منها مات نخله بسبب غرقه في هاته المياه.
اليوم وقد مسـتـنا عولمة البناءات الجاهزة على نمط واحد من العاصمة إلى (تمنغاست)، ومن (سوف) إلى (تندوف). بناءات بشكل عمارات شقق بعضها فوق بعض، حتى اعتقد البعض أنها مفخرة للبلاد وعلامة على لحاقها بالتطور والمدنية الحديثة. وهنا يقول فرانسلوس رين: ماذا سيكون حال العالم عندما لا تكون هناك دولة بعينها...، ثم يقول: في ظل تلك العولمة فهل ستتحدث كل أمة لغتها؟... لن يتوقف انتقال السلع، ولكن أيضاً الأفكار التي ستكون لها أجنحة. عندما تلغى الحواجز بين الدول كما هو حادث داخل الدولة الواحدة، في مثل هذا الجو كيف يمكن لنا أن نحيا الجو القديم من الاستقلالية والذاتية؟ وأقول هل سيكون لكل دولة نمطها المعماري القديم الذي يوفر لها الاستقلالية والتفرد؟  
لأن هذا ليس مجرد قضاء على أنماط قديمة وتقليدية، إنما هي سوق فيها كم هائل من المال يستفيد منه عدد محصور من الأشخاص في ظل غالبية مستهلكة. هذه الأقلية قدرها هانس وزملاؤه بالخمس.
مساحات شاسعة مبنية على شكل رقعة الشطرنج في كل مكان خطوط مستقيمة متقاطعة تشكل في النهاية مربعات سكنية وطرق واسعة وضيقة. مربعات سكنية وتحصيصات مختلفة لا تراعي أي خصوصية. 
اليوم ونحن نقتحم القرن الواحد والعشرين، ألم يعد البناء التقليدي بما يحتويه من قطع نفعية المذكورة آنفاً؛ لم يعد يتماشى مع روح العصر وما تبعه من تطور في التكييف، وصرف صحي، وإنارة عمومية وخاصة، وأجهزة كهربائية وإلكترونية يضيق بها الفراغ السكني؟ أم أننا نضع (فاصلاً بين عالم أفكارنا وبين واقعنا الاجتماعي، فتفقد أفكارنا المقررة.. وظيفتها في التطبيق والعمل).
ذو صلة