بينما كنت مستغرقاً في التأمل والتفكير بين أروقة المكتبة.. فإذا بمن يدفع الباب بعنف، ويصيح في وجهي بلا حياء، قائلاً: يا أستاذ.. حاول أن تتخلص من هذه الأطنان التي تخطاها الزمن.
وقبل أن أفهم مراده من هذه الوقاحة.. راح يتلو علي قائمة طويلة جداً من الأشياء التي صارت التكنولوجيا الحديثة معراجاً لها، مثل: الكتاب الإلكتروني، والصحيفة الإلكترونية، والورق الإلكتروني، وثورة الطباعة الرقمية الإلكترونية، والمسح الإلكتروني، والتصوير الرقمي الإلكتروني، وأقراص الفيديو الرقمية، وإطارات الصور الرقمية المتغيرة، والتعليم الإلكتروني، والمدارس الإلكترونية، والسبورة الإلكترونية، والبحث الإلكتروني، والأرشيف الإلكتروني، والوجود العربي الإلكتروني على الإنترنت، والبنوك الإلكترونية، والحكومة الإلكترونية، والسرقة الإلكترونية، والخلاعة الإلكترونية.. وغير ذلك من المسميات الجوفاء التي يتشدق بها أبناء هذا الجيل!
ورحت أتساءل مع نفسي بحسرة وقلق: هل يمكن أن يختفي الكتاب المطبوع في السنوات القليلة القادمة.. ويصبح من مخلفات الماضي؟ وهل ستنتهي دور النشر إلى الأبد؟ وهل ستتحول المكتبات إلى محلات لبيع أشرطة الفيديو والأحذية والملابس؟ وهل ستباع آلات المطابع إلى تجار الخردة؟! وهل ستتحول مباني المؤسسات الصحفية إلى مطاعم للوجبات الجاهزة؟! كل هذه الأسئلة وغيرها فرضت نفسها على تفكيري بقوة!
بصراحة: إنني غير مطمئن على المستقبل الذي يقود زمامه (الشيطان الإلكتروني) الذي حل ضيفاً غريباً في مطلع الألفية الأخيرة من الزمان.. والذي ظهرت بشائره مع طوابير الجهلة والحمقى والمغفلين وأولاد الأفاعي! فأهلاً.. بالجيل الإلكتروني من الطلاب العاجزين عن كتابة برقية عزاء! ثم أهلاً وسهلاً.. بالموظف الإلكتروني الفاشل في أداء عمله المسند إليه! ثم أهلاً وسهلاً ومرحباً.. بالحكومات الإلكترونية المتسترة على الفساد والمفسدين!.
لكن، بعدما توضأت واستجمعت قواي.. واسترجعت شريط الذكريات، وحال جيلي المساكين، وشيوخي البسطاء، وأساتذتي القدامى.. وما كانوا عليه من العلم والتقوى والزهد والبركة والورع ومكارم الأخلاق، وبين هذا الجيل الإلكتروني التافه؛ استعذت بالله من همزات شياطين الإنس والجن والتكنولوجيا، وتذكرت (المنفلوطي) الذي لم يكمل تعليمه، لكنه أعجز الفصحاء بأسلوبه العذب وبيانه الجميل، وتذكرت (العقاد) الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.. ولم يحصل إلا على الشهادة الابتدائية، وتذكرت (المازني) الذي ألف أكثر من 150 كتاباً، ولم يملك سوى قلمه، وحصيرة بالية كان يجلس عليها، وسط المقابر، وتذكرت (الزيات) الذي كتب الروائع قبل أن تبتلى الدنيا بالشياطين الإلكترونية، فقلت: سلاماً سلاماً على الزمن الجميل الذي تشرف بجيل (اللفائف الورقية).