عبثاً أهرب من قبضة الموت المفاجئة، عبثاً أتخيل أن مستنقع النفس البشرية يؤجلها وينقلها من زمان إلى زمان آخر. في هذا العالم المزدحم بالبؤس يقهر الإنسان بالموت، ولا يستطيع أن يدعي غير كونه متواطئاً، لأنه يحمل في ذاته إمكانات موته. فالإنسان مسكون بالموت، بالمعاناة وبالعدم. إن الموت عدم، ولا وجود. إنها رحلة للوجود المخترق بالعدم، حيث تثبت الدرجة صفر للوجود. إنها تعبير عن حقيقة قاسية وسافرة، وهي كون الإنسان كائناً واحداً ووحيداً على الرغم من كل أوهام الاجتماع. إنها ضجيج يوقظنا من سباتنا ويبعث فينا الألم والحيرة ويلقي بنا في عالم من اللاإرادية، والعبثية، والابتعاد عن الذات.
ليس الموت إذن حدثاً يأتي بعد الحياة، بل الحياة والموت شيء واحد في وجودهما. فلا يمكن أن نتصور الحياة دون موت، ولا الموت دون حياة، بمعنى أننا نحيا حياتنا وموتنا في نفس الوقت. لكن تتجلى فكرة الموت من خلال الصقيع الذي يصيب الحياة، ويعبث بالوجود الإنساني، فحينها يحس الإنسان بقلق عميق أمام قساوة العالم ولا إنسانية موجوداته. فالموت يعري الوجود ويسقط أقنعته ويحاصر زمانيته، ويقذف به في عالم اللا معنى، الشيء الذي يجعل الحياة بحثاً دائماً عن المعنى، وخلقاً لقيم داخل شبكة من الدلالات والمعتقدات، وإنعاشاً سريرياً للوجود من خلال كل أشكال التأويل والتأويل المضاد.
إن الحياة الموت تجربة انطولوجية أصيلة في بنية الكائن الإنساني. إنها حركة بين- بين تخترق صيرورته، وتجعل التفكير في الحياة غير ممكن دون التفكير في الموت والعكس. فلا يمكن والحالة هذه جعلها غاية، بل أفق يحرك وجودنا. هذا الوجود ينقلنا من رفض العالم للإنسان إلى رفض الإنسان للعالم. وعبر عملية الرفض هاته تتولد كل أشكال العبث، وكل أشكال مقاومته والتمرد عليه. وفي هذه البينية يظهر الحب، الألم، الأمل، القلق، الرفض، والإقبال.. فالوجود الإنساني ليس سوى مسيرة إرغامية في حقل من الألغام تنتهي باستقرار إرغامي.. من التراب إلى التراب، من الغبار إلى الغبار، من الرماد إلى الرماد.. هذا يعني أن الموت هو استقرار إرغامي يفقد فيه الإنسان القدرة على التجدد مع كل حكاية وجودية، وبعث غير منقطع لتدفقها في كل اتجاهاتها. إنها انفلات، أمامها نعجز عن التعبير، حيث تشل اللغة ذاتها. وهذا ما عبر عنه فوكو حينما قال في أواخر أيامه (ليس هناك ما يمكن قوله)، هذه ربما العبارة الأكثر عمقاً في التعبير عنها.