أعود والشوق يحملني على جناحيه يطير بي إلى مرتع طفولتي، الذي غبت عنه ما يزيد عن العقدين. وددت لو أن السيارة تتحول طائرةً نفاثةً، كي لا يطول شوقي! أذكر أنني حينما ودعت قريتي البسيطة آخر مرَّة كان يحملني الشوق ذاته لأرى وجه المدينة التي كنت أسمع عنها فحسب، وأرسم لها في خيالي صورة لمدينة أفلاطون! وكم كانت خيبة أملي كبيرةً حينما رأيتها عارية لا يسترها ثخين ولا شفاف! رأيت البؤس في شوارعها كما لم أره في قريتي الصغيرة قط! رأيت البؤساء يفترشون الأرصفة ويلتحفون الفضاء، ورأيت الناس يمرون حواليهم بسياراتهم الفارهة، لا ينظر إليهم أحد، لا يكلمهم أحد. أهل المدينة الذين أحببتهم وأحببت زياراتهم لنا في قريتنا بسياراتهم، وثيابهم الفاخرة وبشرات وجوههم الناعمة! كنت حينها أتوهم أخلاقهم في رقة حديثهم ونعومة بشرتهم! كانت صدمة لي أن اكتشف أنهم يحملون صخوراً في صدورهم، يفضلون إلقاء مخلفات موائدهم في حاويات الأزبال على أن يُؤْثِروا بها ضعافهم!. والمدينة من قال إنها عمارات تناطح السحاب، وشرفات تزدان بالفاتنات من الصبايا الحسان! وحدائق تأسر الناظرين؟ ليس ثمَّ إلا القذارات وأكوام النفايات، وقنوات الصرف الصحي منفجرة هنا وهناك، ودخان سيارات وأبواق مزعجة، وعراك وشتائم كقيح الآذان! ليت المدينة ظلت صورة حبيسة في خيالي.. لكنني اليوم أعود إلى الخلاء الريفي الممتد حيث لا جدار ولا حصار. إلى الغابات الخضراء والهواء الطلق النظيف.. نزلت من السيارة لأطأ الثرى الذي افتقدت رائحته الجميلة. سرت نحو بيتنا القديم وقد بدأ شوقي يتلاشى وأنا أرى خيوط الكهرباء كنسج عنكبوت في فضاء قريتي التي عهدتها دوماً حرة طليقة.. سمعت أن السياب الذي طالما تغنى بجيكور وهو بعيد عنها قد خاب أمله حين عاد إليها وقد تغيرت ملامحها. حاولت أن أنسى السياب وجيكوره فعاد يلح عليّ حين انتهيت إلى مكان شجرة الأرجان العظيمة التي كنا نجتمع حولها صغاراً، فلم أجدها! يبدو أنهم اجتثوها لتوسيع الطريق. ورغماً عني تراكم على ذاكرتي زخم من أشعار الجاهليين وهم يقفون على الأطلال ويبكون الديار. كان الأساتذة في الجامعة يقولون لنا إن تلك المقدمات الطللية كانت تقليداً أعمى دأب عليه الشعراء، وتخلص منها الشعر على عهد أبي نواس ومسلم بن الوليد، لكنني لم أقتنع يوماً بكلامهم، كنت أرى في تلك المقدمات الطللية دفقات شعرية جياشة! وها أنا الآن أقف بنفسي على طلل وأبكيه من غير دموع. وحين انتهيت إلى بيتنا القديم هالني أن الباب الخشبي قد تهرأ ونخره السوس! الحجرة الوحيدة التي كانت تجمعنا نبتت بها شجيرات وتهاوت من سقفها بعض الصخور. وقفت عند الباب وكأن يداً تمسكني وتمنعني أن أتقدم. أطلت النظر إلى الزاوية التي كانت مرقدناً أنا وإخوتي الستة، كأنني أراهم رأي العين، يلتحفون غطاء صوفياً ويتهامسون، ويتضاحكون. واستشعرت شيئاً من الدفء وأنا أتذكر الأماسي الجميلة على ضوء الشمعة، حيث كانت تجمعنا حكايات أبي عن طفولته، وقصص أمي التي كنا نستقبلها بأخيلتنا الواسعة، لا يعكر علينا صفو الحديث مذياع ولا هاتف ولا تلفاز.. نظرت إلى السقف المهترئ وعليه نسْج العناكب وبعض الوزغات.. تذكرت حين أيقظنا أخي الصغير يوماً في الهزيع الأخير من الليل صارخاً من لدغة في وجهه. نفضنا الفراش لنجد عقرباً صفراء، ملأ قلوبنا الخوف عليه، وحمدنا الله حين نجا من لدغتها. فكنّا نداعبه ونقول له إن السم الذي يجري في عروقك أقوى من سم العقارب. أخي الصغير ذلك كم كنت أحبه، ابتلعته المدينة، وشغلته عنا شؤون العيش فلم أعد أعرف منه إلا بعض الملامح تذكرني بطفولته، وتناسى هو كل الذي كان فصرنا لا نلتقي إلا مرة أو مرتين كل عام فيصافحني في فتور ثم يختفي دون أن يسأل عن حالي أو يجالسني.. خرجت من البيت وقد انهار شيء ما بداخلي. أحسست للحظة أنني قد أخطأت حين جئت إلى هنا وحطمت حلمي بنفسي، أذكر أنني مرة بينما كنت أطالع أشعار العذريين، إذا بي أقرأ قولة لأحد النقاد يقول: إن من حسن حظ الشعر العربي أن قيساً لم يتزوج من ليلى، وأن جميلاً لم يظفر ببثينة، وإلا لبصق كل منهما في وجه حبيبته! أتراني كرهت المكان الذي جئت من أجله، أم تراني كنت أتوهم أنني سأجده كما تركته آخر مرة، وأن أجد إخوتي وأصدقاء طفولتي صغاراً كما تركتهم؟ أجئت هنا أبحث عن المكان أم عن الزمان؟ أهو الحنين إلى الطفولة؟ لقد ارتبطت طفولتي بهذا المكان، ولقد دفنتها هنا ورحلت، يبدو أن قدر الإنسان أن يموت عبر مراحل قبل أن يغمض جفنيه للمرة الأخيرة، وأن يبكي نفسه قبل أن يبكيه الناس! يبكي طفولته، يبكي شبابه، يبكي مراتع لهوه وأنسه، يبكي أول ما يولد ويعيش حياته على وقع البكاء.