الليل حقاً طويل حينما يكون كل شيء في قبضة اليد فراغاً، إذ يتحول كل ضوء إلى لعنة تنصب في العين وفوق الرأس.. لا أقوى على احتمال المزيد من آي العذاب.
ليل يخلف من بعده نهاراً يحمل في وجه بادي الشحوب ملامح باهتة، وحيث يزحف قرص برتقالي تبدو تحته القبة الذهبية في سباتها سجينة بين غيوم كثيفة. تضيق عليها الخناق من كل جانب، فينجب ضوءاً عجوزاً يتناثر من خلال فجوات شديدة الضيق والانحدار من خلال شوارع المخيمات شديدة الضيق والفقر والحرمان.. كبيوتها المنخفضة المتلاصقة كتلاصق الصغار عند الخوف.
كل ذلك يسقط محطماً على جسد تركته ليال الحرمان والقهر في وطن يتلاشى أمام العين مثل قطعة ثلج.
ماذا سيمنح هذا الضوء الواجف سوى برد جارف، لا شيء سوى الوقوف على أطراف فصلتها الوحدة والانقسام وتحكم المحتل المهين.. لكن ليل الذل حتماً له غد وإن طال، ما دام العزم لم يلين.
حياة شاب جاوز العشرين تخرج من الجامعة.. أحلامه بحجم عمره.. عمل مناسب، زوجة جميلة، منزل وأطفال.. أحلام قليلة، لكنهم يمنعون حتى الأحلام.
أخي الأصغر (جهاد) خرج يرمي مع رفاقه دبابات الاحتلال بأحجاره الصغيرة رافضاً الانصياع لأوامر أمي بالبقاء.. غير مصغ لنصحي بأن هذا الحجر لا يفعل شيئاً.
ألقى عليهم بحجر وآخر.. انهالت عليهم الرصاصات.. إحداها اخترقت جمجمته.. اغتالت براءته وأحلامه.
في القلب نار.. الوطن السليب.. الأخ الشهيد الذي روت دماؤه الأرض.
لقد رسمت دماؤه لعيني الطريق وكشفت عنهما غشاوة الأحلام في وطن حلمه الوحيد (الحرية).
أنا الآن أسير هائماً على وجهي، أتأمل الشوارع والأزقة والناس والجنود وأمارس التشرد والبحث عن معنى للحياة، أحصي ساعات العمر وأطوي الأيام باحثاً عن ثقب للدخول (حيث أكون).
أشجار الزيتون الباقية ما عادت تطرح كما كانت.. ما عادت طيورها تغرد كما كانت وما عادت أغصانها تعبأ كثيراً بمداعبة الرياح.
أعمدة الإنارة القديمة ترثي لحالنا.. ضوؤها الشاحب يرسم ظلالاً سوداء قصيرة، والسكون يجثم على القلب كما يجثم على كل الأشياء.
(تفاوض) تُرى أي معنى تحمله الكلمة مع من لا يعرف للكلمة قيمتها ولا يقيم للعهد وزناً؟!.. تراهم يصدقون في وعودهم.. منذ متي وهم يصدقون فيها؟ وماذا يدفعهم لذلك؟
(إنه الضحك على الذقون) كما كان يقول جدي وهو يشير صوب القدس وتغرغر عيناه بالدموع.
(ما أخذ بالقوة لا يسترد بسواها).. كلمة قالها الزعيم.. عرفنا الآن معناها، وعرفنا قيمته. عرفنا أن حياتنا تقض مضاجعهم واستشهادنا يقض حياتهم كلها.. ساعتها يصبح للتفاوض ثمن ومعنى.
انفتح الباب.. دخل البعض.. في إثرهم اندفعت.. ضغطت.. تطاير كل شيء في السماء.. زعردت عرائس الحور.. تلقفتني علي وسائد من حرير.. أطالع القدس تودع شهدائها.. تزفهم للخلود.