مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

التوثيق الفني لرحلة الحج

كل طقوس وعبادات المسلم وأدائه للفروض الخمسة تعد حالة خاصة به كفرد ماعدا صلاة الجماعة والحج، وقد حظي الحج بالذات بالعديد من الاحتفاليات المشتركة التي تمثل فرحة الحاج نفسه بأداء أصعب العبادات وأبعدها منالاً إذ قليل من المصريين الفقراء من كان ينالها، وتكتب له أو كما كانوا يقولون: الحج والعمرة وعد مكتوب للموعودين فقط، وكانت احتفالات مصر بالحج والحجيج تبدأ مع مواكب المحمل التي كانت تحمل كسوة الكعبة وكانت تلحق بها جماهير تحمل البيارق وتلبي حتى قبل موسم الحج بعدة أشهر. أما طقوس الوداع والاستقبال فكان المصريون ومازالوا حريصين عليها ويتبادلون فيها الهدايا العينية وأبرزها السكر والشربات والحلوى، وينتظر المودعون عودة الحجيج لتلقي الهدايا والتذكارات مهما كانت بساطتها من جوار الحبيب النبي، أو من قرب الحرم، سجادات الصلاة والمسابح والعطور الزيتية الشرقية المميزة، وإن اختلفت الآن طبيعة هذه الهدايا المتبادلة.. ناهيك عن توديع الحجاج بالرايات البيضاء والزغاريد حتى المطار أو الميناء في السويس وعلى طول الطريق، ويغالي المصريون فيبدأون التلبية من مصر.. حتى قبل أن يصلوا إلى الأراضي المقدسة. أما عن تزيين بيوت الحجاج بعبارات الحج المبرور فكانت ومازالت يحرص عليها المصريون خصوصاً في الريف المصري بحري وقبلي، وتحتفظ ذاكرة الفنانين والباحثين في الفنون الجميلة بنماذج من الجداريات الجمالية التي تعبر عن أفراح الحجيج، وتضم رسوماً أقرب إلى الرسم الفطري أو البدائي، مثل الطائرة والسفينة والسيارة والجمال كوسائل مواصلات تقل الحاج إلى الحرم حتى ما بطل استخدامه من هذه الناقلات، مازال يرسم على جدران بيت الحاج، بالإضافة إلى صورة الكعبة والقبة الخضراء الممثلة لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم وشباكه، وباب الكعبة المشرفة، وصور رجل في لباس الإحرام رافعاً يديه بالدعاء.. إلى غير ذلك من رموز دالة على مدى وعمق تأثر المصري عبر العصور بالمشاركة في أفراح الحجيج.
وبالطبع رصدت الأدبيات العربية وكتب التراث كل مظاهر الاحتفال المتعلقة بموسم الحج وطقوسه والفنون المصاحبة لها سواء كانت غناء أو فناً تشكيلياً أو عادات وتقاليد شعبية، واهتم بذلك أكثر دارسي التراث الشعبي وباحثيه، حرصاً على رصدها وتوثيقها خوفاً من أن تندثر؛ نظراً لأن مظاهر المدنية الحديثة - ولا أقول الحضارة الحديثة - قد بدأت بالفعل تطمس جانباً من هذه المظاهر خصوصاً بعد أن أصبح أداء الحج أمراً شبه ميسر للكثيرين، بل ويغالي المصريون في تكرار القيام برحلات العمرة بشكل قلل من بهجة الحدث الذي كان قبلاً نادر الحدوث فأصبح متكرراً ومتاحاً وميسراً. وحسب علمي أن هناك رصداً للترانيم الشعبية المصاحبة للحجاج منذ كان حداء للجمال التي تحمل الحاج وزاده وزواده في طريق طويل وشاق ووعر كان الغناء وسيلة للتسري والتسلية.
ولعل مكتبة معهد الفنون الشعبية في أكاديمية الفنون تعج بدراسات مهنية حللت وسجلت هذه الأغاني والترانيم، وكل ما أعرفه أنها كانت تعتمد على التأليف الفردي والأداء الجماعي، وأنها كانت من المحفوظات التي تُستدعى ويتم ترديدها في مواسم بعينها كأغان دينية، ومنها ما هو خاص بالحج بالذات، وقد كانت هذه الأغاني إما بالفصحى أو بلهجة أقرب إليها بحيث تبدو مختلفة عن غيرها من الأغاني الشعبية الخاصة بالمناسبات العادية كالأفراح مثلاً، وكانت كلماتها بالطبع تتصل بالمعتقد الديني ولذلك يمكن استنتاج أن مؤلفيها غير المعروفين كانوا على ثقافة دينية معينة وراقية رغم شعبيتها، وكانت مفرداتها تتعلق بمدح الرسول والفرحة بزيارته وأداء الفريضة، ولعل معظم هذه الأغاني كانت تشبه المدائح والمواويل بكل ما يمكن أن تؤثر به في نفوس المتلقين مع اقتراب من التراث الصوفي المصري الذي يعد مرفوضاً في السعودية وفي بعض المذاهب الفقهية. وبالطبع كانت أغاني الوداع تميل للحزن وأغاني الاستقبال تتميز بالفرح، وهناك كتب عن التراث الشعبي رصدت الغناء الديني بوجه عام وضمنه غناء الحجيج، وأذكر منه كمثال: يا ولاد بلدي.. الوداد الوداد - يا ولاد بلدي ما باقي إلا السفر واحمل بزادي.. والصاية الكثير - حداكم ولادي.. كله في حب النبي. 
وبالطبع كانت الأغاني تصف وسائل السفر القديمة بالذات مثل القول: وخدهم يا وابور وخدهم براحة - دول شباب صغار وجولك في راحة بعد زيارة النبي شبك في الجريدة - ملسك يا حاجة شبك في الجريدة خلصوا يا جِمال بلدي بعيدة - رايحة أزور النبي. 
وهناك أغان تصف مواكب الحجيج وعودتهم بالفرحة بكل رموزها مثل: طرف شال الحجيج.. أبيض من العلامة وأبيض من لبن الحليب يا حاج يوم السلامة.. يا طرف شال الحجيج أبيض من القلوع وأبيض من لبن الحليب.. يا حاج يوم الرجوع واديني بقول لك يوم السلامة مكتوبة لك عند النبي.. أنفقت مالك وحجيت ورجعت لعيالك وزرت وعدت فرحان.
pantoprazol 60mg pantoprazol takeda pantoprazol iv
ذو صلة