ولعل من الخطأ القول إن تلك الألعاب، التي شاعت في فترات مختلفة ومازال بعضها يحافظ على حضوره وبعضها الآخر يسير نحو الاندثار؛ كانت تتسم بالخفة والسذاجة بالرغم من شروطها ومعاييرها السهلة، بل هي تتطلب مهارات خاصة وسرعة البديهة والذكاء الفطري. في الألعاب الإلكترونية الحديثة نحن نعلم أن ثمة تنبيهاً يحدد المستويات العمرية المناسبة لهذه اللعبة أو تلك، لكن في الألعاب التراثية الشعبية لم يكن مثل هذا التنبيه موجوداً، بيد أن المتعارف عليه أن كل فئة عمرية تتجه إلى ألعاب معينة دون غيرها، وهكذا نجد ألعاباً خاصة بالأطفال وأخرى يبرع فيها الشباب، ونوع ثالث يتخصص بها كبار السن، كما أن هذا الفرز الطوعي العفوي يمتد ليحدد ألعاباً خاصة للنساء وأخرى خاصة للرجال، ذلك أن تلك الألعاب التقليدية تطورت وسط بيئات لها أعراف وقيم محددة لا بد من مراعاتها.
ومن دون الخوض كثيراً في الفروقات بين الألعاب التقليدية ونظيراتها الإلكترونية، إلا أن الملفت أن تلك الألعاب القديمة تتميز دائماً بالحركة الجسدية الرشيقة وبالخفة والمهارة وضرورة توفير اللياقة البدنية المناسبة، على عكس الألعاب الإلكترونية التي تقدم كل شيء على نحو افتراضي بينما اللاعب الوحيد جالس خلف شاشة مضيئة، وربما أن ذلك هو السبب في ظهور مشكلة البدانة وخصوصاً في المجتمعات الحديثة، ناهيك عن افتقار هذه الألعاب إلى البعد الاجتماعي والدفء الأسري.
الألعاب التقليدية الشعبية، التي باتت مقتصرة على شرائح اجتماعية قليلة، كانت تساهم بشكل كبير في تمتين الروابط بين الأصدقاء، وتكريس عادات محببة وسلوكيات اجتماعية تخلق الألفة والود بين الجيران وأهل الحارة وربما المدينة الواحدة، فضلاً عن أن هذه الألعاب، على بساطتها، حافظت على التراث الشعبي، وحمت الفلكلور من الاندثار عبر ترديد الأمثال والأغاني والأهازيج والأناشيد التي تعبر عن روح المكان وعن الذاكرة الجمعية في هذه المنطقة أو تلك.
من الصعوبة بمكان إحصاء تلك الألعاب التي شاعت في مناطق مختلفة من سوريا، وفي مراحل تاريخية معينة، ولئن وجدت ألعاب تكاد تتشابه في مختلف المجتمعات العربية مثل لعب الورق والضومنة وطاولة الزهر وغيرها، إلا أن لكل بلد، رغم ذلك، خصوصيته في عدد من الألعاب، ففي سوريا، مثلاً، يمكن تعداد الكثير منها مثل لعبة (ازاي عروستي) وهي عادة تلعب في السهرات العائلية وفي حفلات ميلاد الأصدقاء ولها قواعد تراعي الجو العائلي، وكذلك لعبة (أم العالي والواطي)، وهي تحتاج إلى عدد غير محدد من اللاعبين الذين عليهم ألا يبقوا واقفين عالياً بل عليهم التنقل بين الأماكن العالية، مروراً بالأماكن الواطية، ولعبة (أم عميش) التي تعصب فيه عيني أحد الأولاد ويدور بقية الأولاد حوله مرددين: أم عميش إيش وإيش، اش تعشيتي؟ خبزة وعيش، اش ضايعلك؟ إبرة وخيط، وين حطيتيا؟ براس القاضي، بتاكلي كبة بلبنية؟... ويحاول اللاعبون خلال ترداد هذه الأناشيد شد كمّ أو صدرية الشخص المعصوب العينين، ثم الابتعاد فإذا استطاع الولد المعصوبة عينيه (المعمّش) أن يمسك أحدهم انتقل الدور إليه ليصبح المعصوب.
وثمة لعبة اسمها (تخليص) ويتم خلالها تشكيل فريقين، وعدد لاعبي كل فريق حوالي خمسة لاعبين، إذ يتم الاتفاق على تحديد مكان اسمه (الفولة) مساحته حوالي متر مربع واحد، وعبر سلسلة من المفارقات والحركات البدنية تجري اللعبة القائمة على أساس المهارة والرشاقة في الحركة، وثمة لعبة اسمها (جمل ماشي عل مماشي) ويختار الفريق اللاعب معلماً للعبة والذي يردد أهزوجة (جمل ماشي)، مقرناً كل مقطع منها بحركة معينة، ويجب على كل من اللاعبين القيام بحركة مختلفة عن حركة المعلم، ومن يخطئ ويقلد المعلم يخسر وتفرض بحقه غرامة ما، متفق عليها سلفاً، وهناك لعبة اسمها (الرقاص) وفيها يتخذ اللاعبون من الورقة شكل شبه طير يثبت جانباه بخيط، ويربط من وسطه خيط طويل ويجعل له ذيلاً. يركض الأولاد ساحبين الرقاص فيعترضها الهواء فترتفع وراءهم، وهم يهزجون: (هوّيلو... كل ما علّا... وطّي لو)، وهناك لعبة (الشيش) وهو عمود مؤلف من عدة أحجار، متقاربة المساحة ومطبقة فوق بعضها البعض، ويفضل أن تكون كسرات من البلاط لسهولة تطبيقها. في هذه اللعبة ينقسم الأولاد إلى فريقين متساويين ويكون هنالك رئيس لكل فريق يمكن تبديله دورياً، ويكون هو حارس الشيش إذا كان فريقه مدافعاً. تجري في البداية قرعة، والتي غالباً ما تكون طريقة (شكة قدم)، يتحدد فيها الفريق المهاجم مبدئياً. يطبق الشيش في مركز دائرة ذات قطر يساوي المترين تقريباً ويكون محيط هذه الدائرة، المرسومة بالحوّار على أرض مستوية نسبياً، حدود مجال حركة حارس الشيش. يُرسم خط مستقيم على بعد يساوي حوالي خمسة أمتار عن الشيش، والذي يحدد أقرب نقطة للهجوم. يستخدم اللاعب المهاجم كرة شبيهة بكرة التنس، وفي حال عدم توافر مثل هذه الطابة يتم استخدام أداة أخرى كفردة شحاطة مثلاً، لضرب الشيش وإيقاع
مكوناته أرضاً.
ومن الألعاب التي كانت رائجة لعبة (الصياح) وتلعب هذه اللعبة بأنماط مختلفة عبر نمط عدة لاعبين ضد لاعب واحد يتم اختياره بالقرعة، ويحتاج كل لاعب إلى صياح واحد وقيطانة، ويفضل أن تلعب اللعبة في ساحة مستوية لتسهيل الحركة الدورانية للصياح، وكذلك لعبة (طيمشة ميمشة)، إذ يتحلق مجموعة من الأطفال على محيط دائرة ويمدون أقدامهم باتجاه مركزها ثم يقوم أحد الأطفال بأداء الأهزوجة لتفوز القدم التي تنتهي عندها آخر كلمة من كلمات الأغنية، مما يدعو إلى سحبها. تكرر العملية على المجموعة المتبقية من الأقدام ويعتبر الطفل فائزاً إذا فازت قدماه.
لا يمكن، بطبيعة الحال، إحصاء تلك الألعاب التقليدية التي شاعت في فترات مختلفة، فمثل هذا الأمر يحتاج إلى مجلدات، وما سبق هو عبارة عن نماذج تظهر طبيعة وأجواء تلك الألعاب التي ابتكرها أجدادنا من أجل القضاء على الملل، وإيجاد لحظات من المتعة والفرح بصحبة الأهل والأصدقاء. وبمعزل عن الخوض في الجوانب السوسيولوجية والأثنولوجية لتلك الألعاب، لكن المؤكد أنها كانت تساعد في صقل مدارك المرء وتحفظ له لياقته البدنية خلافاً للألعاب الإلكترونية الحديثة التي يضطر خلالها اللاعب إلى الجلوس ساعات طويلة وهو يمعن كالأبله في الشاشة من دون أن يشعر أن العالم أرحب وأوسع من أن نختزله في مجرد صور بلا روح تتحرك على شاشة خرساء، باردة.