يطل رمضان بوجهه الأنيق.. قبل قدومه، وتشرق أنواره قبل بزوغ شمسه، فيرسل عطره الفواح منذ رجب وفي شعبان، فتستكين النفس لهذه الفغمة العبقة، وتتهلل الأسارير، ويتباشر الناس بالموكب السعيد، والمحفل البهيج، يتبادلون ألفاظ التهنئة، وعبارات الدعاء: أن يبلغوا رمضان. ولا يكاد يمر هذا الجلال بالخاطر حتى يستفزّ قوى الإيمان المستكن في أغوار النفس، ودفائن الوجدان، وتستروح النفوس عمود البهجة، ونسمات الطاعة، ونفحات الذكر الحكيم، ويطلّ ألق يغمر الحياة، ويتلبس بالأحياء.. وتتجلى الطبيعة هامسة مناجية تصغي لها الأفلاك في عليائها، وتشد قلب المؤمن إلى بؤرة الكون، ووحدة الوجود، فتؤجّج عواطف الإيمان، وتضرم لهيب الشوق إلى أنغام رمضان العذبة، وفيضه النوراني الذي تسبح فيه الأرواح المؤمنة.
وكلما حل شهر رمضان تداعت إلى الذاكرة صور شتى منوعة.. تستقطبها مخيلة الفكر، وشريط الذكريات.. صور الطفولة البريئة التي تبتهج بالشهر الكريم امتداداً لابتهاج الأهل والمجتمع، وما يقترن بالشهر من تغير العادات، وكسر أنماط الحياة المألوفة.
مرحباً بك يا رمضان على كل لسان.. في وجوه الصغار والكبار.. يعدّون أطايب الطعام، ويحتفلون بمقدم الشهر الكريم.. اليوم يظلّ الناس سهارى حتى يحين السحور، لأن الكهرباء حوّلت ليلهم نهاراً، وسرقت النوم من أجفانهم، وأغرقت وقتهم بالحركة والنشاط، وأغرت الوسائل الحديثة الناس بالسهر، والجلوس أمام التلفاز.. وفي القديم كان الناس يخلدون إلى النوم المبكر، ويغرقون في ظلمة الليل البهيم.. يلف البيوت والقرى بعباءته السوداء، فيداوي تعبهم، وينزع قلقهم، ويستل همومهم، لهذا احتاجوا إلى مسحراتي يطرق عليهم الأبواب والنوافذ، ويوقظهم بصوته الشجي (يا نايم وحِّد الدايم)، وتتلوّن إيقاعاته الندية بقدر عمر الشهر الكريم.. من شبابه إلى شيخوخته، ولهذا ينادي بآخره: (لا أوحش الله منك يا رمضان) بنبرة المحب الذي يودع حبيبه، وقد أزف الترحل والوداع.
كنا صغاراً.. نتلهف إلى المشاركة في السحور، لما فيه من مفاجآت أنواع الطعام، ولذة مشاركة الكبار، والتشبه بهم، وربما من أجل لذة اليقظة في هذا الوقت الروحاني الهامس، القريب من المناجاة الروحية، والصفاء النفسي، فإن فاتنا السحور بكينا بدموع غزار.. فإذا أصبح الصباح ذهبنا إلى المدرسة الابتدائية يباهي بعضنا بعضاً بالصيام، وعيرنا المفطر بقولنا: (يا مفطر يا قليل الدين).. مع أنه ما زال طفلاً غير مكلف.
وقد يأتي رمضان في صيف قائظ، وحرارة شديدة، فيتساقط الظمأى منا ويغشى عليهم، ويرشون بالماء البارد.. ولا يفطرون، وقد يعتدون بالصيام إلى الظهر أو العصر، ويسمونه (صيام درجات الحمام).
قديماً قد يتأخر الناس في الاستيقاظ صباحاً، ولكنهم لا يبلغون مبلغ الناس اليوم، الذين يمتد نوم بعضهم إلى ما بعد الظهر، أو العصر، ويزعمون (أن نوم الصائم عبادة).. وما دروا أن العبادة بالعمل والكسب، ولهذا لم يكن جدول أعمال القدماء يختلف في رمضان عما كان قبله، أو يكون بعده.
فإذا دخل وقت العصر، وبردت الأرض، ورق الهواء.. انتشرت الأقدام إلى الأسواق، لجلب ما يحتاج إليه الفقير الذي يعتمد على طلباته - يوماً بيوم - إلا فيما يكون من مخزون المنزل، وحين يدنو وقت الإفطار يتدفق الأطفال صوب مدفع الإفطار، ليشاركوا صوته المدوي بالتهليل والتكبير، ويجمعوا ما تساقط من فتات طلقاته ليشعلوها مرة أخرى، كان الاعتماد يكاد يكون كلياً على هذا المدفع في عمليتي الإفطار والإمساك، لأن المؤذن كان يؤذن بصوته فقط، فمكبرات الصوت لم تكن معروفة، والساعات قليلة، وتوقيت هذا وذاك لم يكن متداولاً ومعروفاً، ومحظوظ جداً من يملك مذياعاً ليستأنس بصوت المؤذن، وعليه أن يحسب فارق التوقيت، وقد يبالغ فيه قليلاً خشية الوقوع في الخطأ.
كانت البراءة في كل شيء: في الطفولة.. والمجتمع.. والحياة، والعذرية في: العادات.. والقيم.. والأخلاق، يحيا بها الناس، ويتبادلون صنوف الطعام وأنواع المأكولات كما يتبادلون التحيات، وكثيراً ما يكون الإفطار جماعياً، ويذهب رب الأسرة بطعامه إلى مركز الحي أو العائلة، فيتكون من مجموع الأطعمة مهرجان متعدد الأشكال والأذواق.. هنيئاً لتلك الأجيال بساطتها وطهرها، ونقاءها وصفاءها، وتعاونها ووحدة كلمتها، وهنيئاً لجيلنا ما أمدته به الحضارة من ضروب الأطعمة، وأنواع المأكولات، وترف المعيشة، ورقة الحياة، وما قذفت به من الأدوات ووسائل التقنية.
اليوم يصوم الناس عن الطعام والشراب: والخيرات مكدسة في بيوتهم والثلاجات تعج بما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، من حلو وحامض ومزّ، والمال متيسر، والأسواق تكتظ بالبضائع، والماء مبرد، والمكيفات تعمل في البيوت والمكاتب، والسيارات مكيفة وسريعة، والحياة رخية ندية، يأكلون حتى البشم، ويتناولون حتى التخمة، وهذا من فضل الله الذي منّ علينا بالأمن والاستقرار ورغد العيش.. بينما كان القدماء يكتفون بحبة تمر، أو جرعة ماء، أو قعب لبن، فإن وجد أحدهم إفطاره لم يجد سحوره، مع صعوبة العيش، وقلة الوسائل.
فهل يمكن أن نعيد لرمضان روحانيته، ونعود به إلى حد الاعتدال، ونحقق غاية الصيام، ونكف غلواء التبذير والإسراف؟ لعل ذلك.