الزمن دليل وجود الإنسان، وترتيب العلاقة معه دينياً هو لمواجهة الموت كنهاية بيولوجية وفسيولوجية، ولكنه أيضاً كعتبة نحو حياة أخرى، وكوني أموت هو جوهر كينونتي كما قال بذلك الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر، والموت هو الظاهرة التي يعيشها الإنسان من خلال الآخر الذي يموت أمامه أو من خلال ذاته وليست فيها ذاكرة، فميلادي بداية وجودي يحدثني عنها غيري الذين أحاطوا بي أثناء الوضع فهو تذكّر، وما يجسّد هذا المعنى من العبادات صوم شهر رمضان المعظّم الذي نحتفي بها منذ الاحتلام أي بداية الدخول في مرحلة الرجولة أو الأنوثة والعلامة على ذلك طبعاً جنسية وهنا معنى الحياة، فالصوم بالنسبة للأديان التي عرفته وخصوصاً الدين الإسلامي هو موت، بمعنى الحرمان من الحقّ البيولوجي في زمن معلوم. فالأثر النبوي الشّريف (صُوموا لرُؤيته وأفطروا لرؤيته) بهذا المعنى تتعددّ حالات الموت التي يعيشها المتديّن في انتظار الموت الحقيقي.
الذاكرة والشوق
هنا العلاقة مع الزمن تقوم على الذاكرة والحنين والشوق، وعند المتصوفة أن العلاقة الوجودية هي علاقة شوقية، والتي هي أبلغ درجة من المحبّة، فالإنسان خلقه الله لشوقه لرؤية نفسه وهنا الخلافة الإلهية، (إني جاعل في الأرض خليفة)، وعبادة الله وحسن الاستخلاف هو من أجل شوق إلى الأرض الأزلية التي عاش فيها الجدّ آدم عليه السلام، هنا التذكّر الطريق الملكي للتعبّد والانتظار واعتبار الحياة الدنيوية جسراً وجب الإكثار فيه من الخير الذي هو كذلك دليل المحبة والشوق، إنّ حالات التذكر والحنين إلى الماضي تتنوّع وتتلبّس بسِمات كلّ عصر، والشعيرة التعبدية التي تتزاوج فيها الذكرى والمحبة هي الصّوم المفروض شهر رمضان، فهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن الكريم أي العلاقة الرّسالية بين السماء والأرض، فهو صوم تطهيري لتلقي كلام الله وإعادته في ختمة وعرضه من خلال الأداء الجماعي أو الفردي لصلاة التراويح، هو تذكر لإعادة تلاوته من طرف الرسول عليه السلام أمام جبريل، هنا رمضان تذكّر وحنين لتلك العلاقة الروحية خصوصاً في ليلة القدر التي تُرتقب في العَشْر الأواخر ويكون فيها الإكثار من الذكر والتسبيح وفعل الخير (إنا أنزلناه في ليلة القدر).
فناء من أجل البقاء
رمضان هو معاناة الحِرمان من أجل محبّة الآخرين، تذكير بلحظة نهاية الوجود والفناء من أجل الحياة الحقيقية والبقاء، ونحن وما يأتي من الأجيال هو تجددّ التذكر، ليس فقط تذكر ما أشرنا إليه ولكنه تذكر للمرحلة الأولى التدشينية للإسلام وتذكر لأزمنة أجدادنا وما طرأ من عادات وتقاليد منها ما استمر معنا ومنها ما سوف يكون، وهي عادات تتنوع بحسب المجتمعات، وهي تجليّات للمعاني الكبرى للصوم ويكون فيها الإبداع الجماعي، هكذا يعود رمضان لينقلنا إلى ذلك الزمن البسيط في حياة مجتمعاتنا العربية حين كان أجدادنا يقهرون العطش والحرارة بالصّبر، فلم تكن هذه الوسائل التكنولوجية القاهرة للطبيعة حاضرة، وما كان من تعبّد وإكثار للخير وسَمر ليلي وتكافل اجتماعي، ونعيد في بعض المجتمعات الإسلامية عادات ضمن أفق جديد، وتتقدس اجتماعياً بعض الأكلات ويكون لها الحضور الروحي، فالتّمر فاصل بين حرمان لساعات وبداية تمتّع لسويعات للنوم منها الجزء الأكبر، والكسكس (حبات القمح المقدّسة) عند المغاربة هو وجبة السّحور المباركة، فله قدسيته هنا في الشعائر التعبدية وفي الجنائز وولائم تجدّد العلاقة مع الصالحين. هكذا نتذكر الأجداد وما سَلف من خلال الحرمان والطعام وصلاة التراويح وفِعل الخير وتكرار أهازيج استقبال رمضان، فلرؤية الهلال حكاية في تاريخ مجتمعاتنا فقد كانت مناسبة جماعية - قبل التّلفاز - يَخرج فيها الرجال والنسوة والأطفال لمشاهدة قبيل المغرب آخر شعبان بداية تشكّل الهلال واتخذوا منه رمزاً، وكذا مشاهدة اكتماله لانتظار تتجدّد معها معاني الفناء والبقاء، ودورة الخصب في انتظار الفرج والجزاء، (كلّ عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
الحنين إلى الانتصار في زمن الهزيمة
تتجلّى في رمضان معاني الانتصار على النفس والشّر رغم ما يرافقه من جشع بعض التجار، فدائماً هناك من لم يصفدوا من الشياطين، فالشيطنة تتكيّف حسب الزمان والمكان، وهي ثقافة تحاول إفساد معاني الخير والصبر، والصوم في بعض المجتمعات التي تقوم على قِيَم المقاومة وخوض الحروب هو امتحان للأطفال كي يتعوّدوا على الصوم، وأول بداية لهم تقام لهم الاحتفالات وتُهدى لهم الهدايا، وانتهاك حرمته بالأكل والفجور هو تحدّ للجماعة، ويصوم حتى الذي لا يؤدي الصلاة، فيمكن قبول تارك الصلاة في بعض المجتمعات ورفض مُنتهِك حرمة رمضان، ففيه يتجلّى الإخلاص للقبيلة أو العائلة أو الجماعة وبانتهاكه معناه الخروج منها، إنّه تولّي يوم الزحف (المعركة)، خيانة لا تُغتفر، فهو الشّهر الذي انتصر فيه المسلمون في المعركة الأولى الفاصلة بين الإسلام والكفر (بدر)، إنهم الفئة القليلة التي كانت على الحقّ مثل الفِتية الذين أووا إلى الكهف وجماعة موسى والتي نذرت للرّحمن صوماً لتنتصر على قومها، الصوم حاضر هنا كقوّة نفسية من أجل البقاء بكل دلالته، إنه يذكرنا بمعركة حطين التي انتصر فيها صلاح الدين على جيوش عاتية، وفي كلّ دولة عربية وإسلامية معارك جرت في هذا الشهر، وتذكرها ذلك هو حالة حنين إلى زمن الانتصارات من أجل الخير والأرض والسيادة، هو تذّكر للزمن الأول زمن نزول الوحي ولأزمنة تكرر هذا النزول بكيفية جماعية رائعة تنقلها اليوم وسائط اتصال جديدة بقراءات فنية تختلف من بلد لآخر حسب خصوصية كل واحد، في النطق والقراءة حفص وورش وقالون والدوري، ولذلك حين نقاوم من أجل الخصوصية فلا يعني أنها الأفضل ولكن للإبقاء على تراث الأجداد والتنوع الجميل، وليكون التذكر هو ذلك الحنين إلى الزمن الأول وأزمنة الأجداد، وبهذا يكون الانتصار على النفس والشّر والمغتصب للأرض والجهل والتقليد والكسل والعصبية المقِيتة.