هي مدينة (الزبارة) التي صارت أول موقع قطري على هذه القائمة الأممية، على غرار المواقع التاريخية الأخرى المدرجة على القائمة الدولية، والتي تصل إلى قرابة 981 موقعاً أثرياً في دول العالم، فضلاً عما تكسبها هذه الميزة من أهمية بالغة تضاف إلى تلك التي عليها منذ القرنين الماضيين.
في طريق (المجلة العربية) إلى الزبارة تستحضر أهمية هذه المدينة وتاريخها، وأحوالها التي كانت، والمصير الذي أصبحت عليه حالياً، وتظل تفكر طوال الطريق عن ماهية المدينة ومقتنياتها، والعوامل التي تأثرت بها على مدى القرنين الفائتين، ما جعلها تصمد طوال هذه السنين، حتى آلت من الأجداد إلى الأحفاد، لتقترب شيئاً فشيئاً منها، وتقف مبهوراً في ساحاتها بما خلفه القدماء وحافظ عليه الأبناء.
عند وصولك إلى المدينة بعد تلك الرحلة الطويلة، التي تتراص على جانبي طريقها عدد من المباني والمنشآت، تواجهك قلعة شاهقة يمكنك أن تراها من بعيد، وكأنها تفتح صفحات تاريخها لتبرز ما شهدته طوال عقود مضت، والأهمية التي كانت عليها، حتى أصبحت في حلة جديدة، تستقطب باحثيها، وتغازل زائريها.
وعند وصولنا إلى المدينة، الواقعة بالقرب من شاطئ الخليج العربي، سرعان ما تقف مستحضراً هذا التاريخ، وعندما تتذكره إن كنت باحثاً، أو تستعرضه إن كنت زائراً، يتأكد لديك أن المدينة لم يكن تسجيلها على قائمة التراث العالمي اعتباطياً، إذ أنها تملك عدداً من المقومات التاريخية والأثرية، وهو ما أهلها لهذه الرعاية الأممية، بالشكل الذي يمنحها فرصة فريدة لبناء الوعي المحلي والدولي إزاء هذا الموقع ولزرع القيم التي تنص عليها اتفاقية التراث العالمي.
المزايا السابقة تظل في مخيلتك وأنت آت إلى المدينة، أو حتى مقترباً منها، أو واقفاً بين بوابتها، فلربما لو لم تكن ضمن القائمة الدولية ما فكرت في أن تذهب إليها، أو لربما كانت قراءتك عنها قليلاً، اللهم إلا إذا كنت متخصصاً فلا تكن معلوماتك عنها سوى ما يخدم بحثك أو مرجعك التاريخي أو الأثري.
وأنت في داخل المدينة وأمامك قلعتها العتيقة والمنسوبة إليها أيضاً، سرعان ما يطوي لك التاريخ صفحاته لتطلق بخيالك إلى ذلك العهد الذي شيدت فيه، حتى أصبحت أثراً بعد عين.
وعند استرجاعك للتاريخ يمكنك أن تتعرف أكثر على تاريخ مدينة الزبارة بأنها شيدت خلال القرن الثامن عشر في جدار ضخم طوقها خليجها بقوس تبلغ المسافة بين جانبيه 2.5 كيلو متر، وحصن الجدار بأبراج بنيت على نحو متكرر على مسافات متساوية، وفي ذات الفترة جرى تزويد المدينة بعدد من الشوارع المحكمة التخطيط والتي تتصل ببعضها البعض عند زوايا قائمة.
كما بنيت بعض الأحياء وفقاً لخطة دقيقة، ويعتقد أن المجتمعات السكنية الشبيهة بتلك قام باكتشافها علماء آثار قطريون في العام 1980، تمثل عقاراً مملوكاً لأسر وعشائر.
ماضٍ مغلف بالحاضر
المكان نفسه يشعرك بأنه جزء من الماضي، وإن غلفه الحاضر، وأصبح يتوق إلى المستقبل، غير أن الزائر لا ينسى أنه جزء من الماضي، وأن هذا المكان أصبح موقعاً تراثياً، تجاوز المحلية إلى العالمية.
في هذا الموقع تبدو مشاهد إعادة إحياء التراث الشعبي القطري جلية أمام عينيك، عندما تجذبك فنونه من خلال فرقة العرضة والتي تجذب الزائرين إلى المنطقة، لتقدم لهم عدداً من لوحاتها المستوحاة من هذا التراث الشعبي، في دلالة لافتة بأن كل أرجاء المكان ينبض بالتراث، ويستحضر الماضي، وبما يناسب في الوقت نفسه طبيعة المشاركة ذاتها، وهى إعادة التاريخ والحضارة إلى مدينة الزبارة، بعد إتاحتها للزيارة السياحية، الداخلية منها والخارجية.
هذه اللوحات الشعبية المستوحاة من التراث القطري سرعان ما تجذبك بإيقاعها، وتبهرك بفنونها، خصوصاً وأنه يجرى تنظيمها بجوار زاوية أخرى تم إعدادها لتقديم الأطعمة التقليدية ليتم تقديمها لجمهور الزائرين، في أجواء يبدو عليها التنوع، بما يمكن الزائر من مشاهدة التراث بشقيه المادي والآخر غير المادي.
مدينة على هذا النحو تدفعك إلى التدبر عن تعداد سكانها وقت أن كانت تنبض بالحياة، وقبل أن أبحث في دفتري التاريخي عن هذا العدد، سرعان ما أجابني محدثي بأن تعداد سكانها كان يصل بين ستة إلى تسعة آلاف نسمة على أبعد تقدير، وزادني على ذلك أيضاً بقوله: (إن البلدة جرى تخطيطها كمدينة كبيرة مكتملة، ما جعلها مشروعاً إستراتيجياً بارزاً من قبل التجار الذين استقروا بها خلال القرن الثامن عشر).
وعندما تقرأ في تاريخ المدينة تجدها واحدة من الأمثلة الباقية للصيد التقليدي والمتمثل في اللؤلؤ، ما جعلها مدينة تجارية ومحط أنظار التجار وقتها، وهو ما أدى إلى تحقيق نجاحات لهذه المدينة، أسهم في تدخل قوى الخليج الأخرى، فكان مصيرها آنذاك أن سويت بالأرض حرقاً بعد سلسلة من الهجمات عام 1811، ما أدى إلى هجر سكانها في مطلع القرن العشرين وبعدها لم تستعد المدينة حياتها على الإطلاق، اللهم إلا أطلالاً ظهرت عليها، وتاريخاً سيظل يحكي فصوله، يتطلع إلى حاضر جعل المدينة في عداد التراث العالمي.
قلعة الزبارة
هذا كله خلاف قلعتها التاريخية التي لا تزال تنبض بالحياة، وبخاصة بعد صيانتها وتهيئتها للزيارة المحلية والسياحية ما جعلها محط أنظار السائحين من خارج دولة قطر، فضلاً عن الزائرين من داخلها، ما يعيدهم إلى تاريخها الممتد عبر المئتي عام الماضية، وبما يمكنهم من مشاهدة ما تبقى منها من أطلال مساجد وأبنية ومنازل وسوق.
وقبل أن نشرع في الوصول إلى هذه الأطلال، وما تبقى منها عبر الموقع الأثري، كان علينا أن نبدأ مسار الزيارة للمدينة بتفقد قلعة الزبارة ذاتها. هذا الحصن الذي كان يواجه المعتدين على المدينة، ففي ساحتها نتجول في عدد من غرفها المبنية من الطوب الآجر، الذي ظل صامداً على مدى قرنين، وصار شامخاً يواجه ما قد يعترضه من تحديات الدهر، وهى الغرف التي كانت تستخدم للحماية والإقامة في آن.
من خلال تجوالنا في القلعة لاحظنا أنها مربعة الشكل، وأن إنشاءها على شاطئ الخليج العربي كان لحماية الميناء ومكان رسو السفن في المدينة، وتأخذك الدهشة عندما تلاحظ أن القلعة أقيمت على النقطة التي تنتهي عندها منصة صخور القاعدة الساحلية، في الوقت الذي يبدأ معها الشاطئ أكثر عمقاً باتجاه الجنوب، وهو ما كان يفسر بأن هذه ميزة تميزها للقيام بدورها الدفاعي في حماية المدينة من الهجمات البحرية عن طريق القوارب الشراعية الراسية في مينائها.
غير أن السؤال الذي كان يطاردنا ويطل على أذهاننا من حين إلى آخر، لماذا ظلت المدينة مطمعاً لهجمات الغير على هذا النحو؟ الروايات التاريخية -وفق الكتيب الذي وزعته هيئة متاحف قطر على الزائرين- تجيب بأن (الزبارة كانت في الأصل مستوطنة لتجارة وصيد اللؤلؤ، مستفيدة من مينائها الطبيعي، وموقعها المركزي في الخليج، إذ اعتمد اقتصادها على موسم صيد اللؤلؤ، فكان يجتذب البدو من داخل قطر وآخرين من كافة أنحاء الخليج من أجل الغطس والتجارة وحماية المدينة من العدوان أثناء وجود رجالها في البحر).
الموقع الأثري
ولاستكمال مسار زيارتنا داخل المدينة كان علينا أن نستقل سيارة دفع رباعي من محيط قلعة الزبارة للمرور بها وسط الصحراء، وقد تحدد مسار الزيارة بدقة، حيث قطعت بنا السيارة أقل من 10 دقائق، وإذ بنا أمام موقع آخر جديد كأحد فصول مدينة الزبارة التاريخية، حيث الأطلال التي اختفت أصولها بمرور الزمن نتيجة لتحدياته.
هذا الموقع الأثري يعكس الكثير من مظاهر الحياة داخل مدينة الزبارة، لذلك لا ريب أن تسمع من مرافقك أنه كان هنا بيت.. وهنا كانت منشأة، إلى غيرها من فصول الحياة التي استطاع المنقبون التوصل إلى اكتشافها عندما شهد الموقع أول أعمال التنقيب والترميم في الثمانينات من القرن الماضي حتى بدايات عام 2000، إلى أن استؤنفت مرة أخرى، وكان آخرها عام 2009، وسط رغبة في استمرار عمليات التنقيب للكشف عن القلب التجاري الجنوبي للمدينة، مميطاً بذلك اللثام عن فصل جديد من فصول تاريخ الزبارة وأسرارها التي اشتاق إليها الباحثون، وتستثير الزائرين.
ولم تكن الأفنية وأبنية المدينة هي فقط التي اختفت بمرور الزمن وبقيت أطلالها، ولكن سوق المدينة أيضاً والذي هجره رواده بعد الهجوم على الزبارة عام 1811 أصبح أيضاً أثراً بعد عين، عندها استعرضنا تاريخ السوق الذي يمتد إلى عمر مدينة الزبارة نفسها (أي منذ مئتي عام)، وقتها كان السوق مفعماً بالحيوية والنشاط، وكان يمثل قلب الحياة النابض بالمدينة واقتصادها.
صيد اللؤلؤ
ولعل أبرز ما يلفت انتباهك في تاريخ الزبارة أنها كانت في الأصل مستوطنة لتجارة وصيد اللؤلؤ، مستفيدة في ذلك من مينائها الطبيعي وموقعها المركزي في الخليج، ولذلك اعتمد اقتصادها على موسم صيد اللؤلؤ الذي يصادف أشهر الصيف الطويلة، فكان يجتذب البدو من داخل قطر وآخرين من كافة أنحاء الخليج من أجل الغطس والتجارة وحماية المدينة من العدوان أثناء وجود رجالها في البحر.
حدثني مرشدي داخل موقع الزبارة ليحكي عن تجارب أجداده في صيد اللؤلؤ، ويصفها بأنها (كانت تجربة مضنية بسبب امتداد رحلات الغوص لأسابيع عدة في المرة الواحدة، إذ كانت تبحر القوارب من الزبارة متجهة نحو أحواض اللؤلؤ الموجودة على امتداد الخليج بدءاً من البحرين وحتى الإمارات، وكان الرجال يعملون أزواجاً لجمع المحار، حيث يغطس أحدهم فيما يظل الآخر على ظهر السفينة من أجل سحب الغواص وإعادته سالماً.
وكان الغواص يقفز إلى البحر بعد أن يغلق أنفه بكماشة ظلفية (الفطام)، ويضم كيساً من الشباك حول عنقه أو خصره، ويغلق أذنيه بشمع العسل، ويربط بأثقال من الصخر (الحجر) يتراوح وزنها بين 4 إلى 6 كيلو غرامات، ويحاول حال وصوله إلى قاع البحر أن يملأ الكيس بأكبر قدر ممكن من قواقع المحار).
ويواصل محدثي سرده لهذه التجربة المثيرة من صيد القدماء للؤلؤ. مختتماً حديثه بما يصل إليه الغواص منتهاه، ويقول (عندها يشد الغواص حبلاً تم ربطه حول خصره، لكي يسحب من قبل شريكه إلى السطح، وبقضاء نحو دقيقة تحت الماء، فإنه يمكن لمعظم الغواصين أن يصلوا بارتياح لعمق يصل إلى 15 متراً، فيما يستطيع بعضهم الغطس نحو 25 متراً تحت سطح البحر، إلى أن تستخرج اللآلئ المناسبة على السفينة وتوضع في صندوق خاص، ولكون معظم القواقع ألقيت مكشوفة واختفت، فإن الدليل الخاص بعلم الآثار على صيد اللؤلؤ في الموقع يأتي في الأساس من الأدوات التي استخدمت من قبل الغواصين، مثل أثقال الغطس، وصناديق اللؤلؤ).