كان العلم، ومازال، وراء معظم أشكال التطور والتقدم العلمية والاجتماعية والسياسية والثقافية، في حياة الشعوب والأمم، فالعلم هو قوة الدفع الرئيسة التي تشكل حاضر الشعوب ومستقبلها. ولا شك أن هذا التنوع الهائل من أشكال التطور والتقدم في عالمنا المعاصر تعود إلى الإنجازات العقلية/ المعرفية والعملية/ التطبيقية التي أنجزها العلم ذاته، من خلال جهود العلماء النظرية والتطبيقية، هذه الجهود أدت إلى تطورات غيَّرت أنماط حياتنا وتفاعلاتنا وآمالنا ومخاوفنا، فضلاً عن تغير طريقة تعاملنا مع المشكلات التي نواجهها، وتقديم حلول مرضية لها، وكذا الأهداف التي ينبغي تحقيقها في مجتمعاتنا.
ولا يعني الاهتمام بالعلم ومنجزاته التطبيقية عزله عن السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي الذي نشأ فيه، والوعي الذي أنتجه، هذا السياق كان، في أحيان كثيرة، بمثابة الإطار المرجعي الذي شكل وعي العلماء، ومن ثم انعكس هذا، واضحاً، على إسهاماتهم النظرية/ المعرفية/ المنهجية. والمتتبع لأدبيات فلسفة العلم سيجد أن هذا الفرع من الفلسفة قد أعطى، في السابق، قليلاً من الاهتمام للتأثيرات المادية والاجتماعية والثقافية على نمو العلوم، وخاصة الطبيعية منها، وهذا الإغفال راجع إلى عدم فهم الدور الرئيس للعوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أدت إلى إحداث نجاح ملحوظ أو تراجع ملحوظ أيضاً في تلك العلوم. من ناحية أخرى لم يهتم فلاسفة العلم، كثيراً، بمد الممارسات والإنجازات العلمية خارج نطاق المعامل أو قاعات الدروس العلمية، وبالتالي لم تطرح هذه الإشكاليات على نحو فعال، أعني، على سبيل المثال، لماذا هذا التدفق الهائل للأفكار العلمية في القرن العشرين، وكيف تم هذا التدفق في سهولة ويسر وأصبح قابلاً للتطبيق؟ ولماذا أدى حماس المجتمع الكبير لهذه الأفكار العلمية الناشئة إلى التقدم العلمي؟ وما مدى تأثير العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية أيضاً على نشأة تلك الأفكار؟ إن هذه التساؤلات وغيرها الكثير، طُرحت من أجل فهم ظاهرة العلم والكيفية التي يتقدم من خلالها، وكيف أن هذا التقدم لا يعتمد أساساً على عوامل موضوعية بل هناك عوامل أخرى لا تقل أهمية عن تلك العوامل الموضوعية، أعني العوامل الثقافية، الأمر الذي جعل الأبحاث المستجدة الآن في العلم وفلسفته، تتجه نحو اعتبار العلم ظاهرة ثقافية في الأساس، ولعل أبرز المحاولات التي تعيد النظر في العلوم خصوصاً علم الوراثة، وتكشف عن العوامل الثقافية والاجتماعية، جاءت من عالم الوراثة ورائد الدراسات المستقبلية وناشر العلمية الدكتور أحمد شوقي في كتابه (علم الوراثة: نحو تعريف جديد) الصادر عن المكتبة الأكاديمية بالقاهرة 2014، حيث يعيد التفكير في ظاهرة الوراثة موضحاً أن النظم الوراثية تشكلت وجودياً في سياقاتها البيئية بما تشمله هذه السياقات من عوامل اجتماعية/ثقافية، الأمر الذي يجعلنا نعيد النظر في علم الوراثة ذاته عن طريق إبراز المجال الواسع لهذا العلم باعتباره مجالاً بيو- ثقافي، فالكتاب يحاول الكشف عن الصورة الكبيرة لعلم الوراثة وربطها بالإطار الأوسع لوحدة المعرفة، بمعنى الكشف عن العلاقة العضوية بين علم الوراثة وتاريخ الأفكار والمفاهيم والتقنيات والممارسات، ودور الأنثروبولوجيا الثقافية والطبيعية والاجتماعية، بل والسياسة والاقتصاد. فإذا كان علم الوراثة قد دخل في علاقات تواصل على مدى تاريخ تطوره، مع علوم طبيعية أخرى كالفيزياء والكيمياء، إلا أنه بات اليوم واضحاً بأنه لا يمكن فصله عن العلوم الإنسانية والاجتماعية، ليس هذا فحسب، بل دخل علم الوراثة في علاقة تواصل مع نظم المعلومات.
لقد ساد اعتقاد دام طويلاً يقول إن الوراثة تمثل جزءاً من البيولوجيا أو فرعاً من فروعها، ولكن مع تطور علم الوراثة واتساع مجاله بحيث أصبح يشمل محاور مهمة غير تلك التي كان معنياً بها في مراحل تكوينه الكلاسيكية، أصبح هذا العلم ممتداً ومتواصلاً مع كل المجالات المعرفية في إطارها الموحد وهدفها الأوحد، هذه المجالات المعرفية التي ينتجها الإنسان من أجل الإنسانية، ويمكن أن نطرح سؤالاً أظن أنه يعكس الفلسفة القابعة خلف علم الوراثة وهو السؤال الذي يسعى الكتاب إلى البحث عن إجابة عليه: ما هي النتيجة المتوقعة من هذه الفرضية التي تقول بأن ظاهرة الوراثة في صورتها الكبيرة الشاملة بيو-ثقافية؟ بداية نقول إن طرح الكتاب لهذه الفرضية يصطدم بتاريخ طويل من الاعتقاد بأن انتقال الصفات الوراثية التي نبدأ بها حياتنا، والتي نتلقاها من آبائنا، إلى الأجيال القادمة، يتم دون تدخل عوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية في هذه الظاهرة، ولكن هذا الاعتقاد قد نتج عنه عدة نتائج أهمها: هو تأكيد المركزية الغربية التي نتجت في جزء منها عن المركزية الجينية التي تم فيها استغلال علم الوراثة في تبرير هذه المركزية. فقد نتج عن هذه المركزية الجينية أن العلم أصبح يتحدد بشكل عرقي بل يمكن القول إن العلم أصبح يتحدد عن طريق الدم. وهذا ما جعل بعض العلماء يزعمون أن الفارق بين آراء السود والبيض، على سبيل المثال، في اختبارات معامل الذكاء هو في معظمه وراثي، ولا يوجد ثمة أي برنامج تربوي من شأنه أن يغير من الوضع الاجتماعي للسود والبيض، ومن الأفضل للسود أن يتعلموا أداء الأعمال التي تغلب عليها الصبغة الميكانيكية، حيث إن جيناتهم مهيأة لأداء مثل هذه الأعمال، الأمر الذي جعل حكومة ريتشارد نيكسن رئيس الولايات المتحدة السابع والثلاثين (1969 - 1974) تتخذ هذه الآراء كذريعة لخفض نفقات الخدمة الاجتماعية والتعليم. إن مثل هذه الآراء العلمية الزائفة تضفي الشرعية على التفرقة العنصرية التي تروج لها بعض السياسات، والتي تدعي أن البرنامج الجيني للشعوب الأفريقية والآسيوية منحط وراثياً، ومن ثم لا يمكن أن نوجه اللوم للسياسات المتبعة في المجتمعات التي تنتمي إليها مثل هذه الشعوب، بل اللوم كل اللوم لهؤلاء الذين يثيرون الشغب داخل تلك المجتمعات، لأن إثارتهم للشغب ناتج عن خلل جيني، ومن ثم على حكومات هذه الشعوب أن تعزل هؤلاء (في سجون أو معتقلات أو مستشفيات) تمهيداً للتدخل الجراحي لأمخاخهم، أو بتناول العقاقير التي تجعلهم أكثر تكيفاً مع المؤسسة السياسية والاجتماعية القائمة. ومما هو أكثر من ذلك حاولت بعض الحكومات أن تستخدم علم الوراثة لتبرير تحسين النسل أو اليوجينيا، حيث تؤكد اليوجينيا الفروق بين السلالات من حيث العرق، فعلى سبيل المثال، أعلنت وزارة أدولف هتلر في ألمانيا عام 1933 قانوناً للتعقيم اليوجيني، حيث كان يطبق هذا القانون، ليس على نزلاء المصحات العقلية، وإنما على كل من يعاني من قصور وراثي مزعوم: ضعف عقلي، انفصام الشخصية، الصرع، العمى، الإدمان الشديد للمخدرات أو الكحوليات، التشوهات الجسدية التي تعوق الحركة، ومبرر وضع هذا القانون هو منع تسمم دم السلالة الألمانية بأكمله، وعندما كان القانون نافذاً منذ يناير عام 1934، وخلال ثلاث سنوات كانت السلطات الألمانية قد عقمت عدداً يتراوح ما بين 200 و250 ألف شخص، وفي عام 1939 تحركت الحكومة الألمانية لأبعد من ذلك، حيث وضعت قانوناً للقتل الرحيم Euthanasia في طبقات معينة من أصحاب المرض العقلي أو المعوقين ذهنياً الموجودين في المصحات العقلية الألمانية، حيث تم تنفيذ القتل الرحيم على نحو سبعين ألف مريض.. وهكذا بدأ الالتحام الحميم بين البحث اليوجيني والسياسة واضحاً للعيان في ألمانيا، كما كان واضحاً للعيان، أيضاً، في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث تم تدريب عدد كبير من الأطباء والعلماء، وعلماء الاجتماع، ليكونوا درعاً لحماية أمن الحكومات والمؤسسات والشركات التي روجت ومازالت لليوجينيا، لوضع حد فاصل يتخذ صفة العلمية، للتمييز بين الأعراق والشعوب التي تحمل صفات وراثية تؤهلها لقيادة العالم، وأعراق وشعوب أخرى تحمل صفات وراثية غير مرغوب فيها تجعل معدل ذكائهم منخفضاً للغاية، ولا يرتقي، بأي حال من الأحوال، إلى معدل ذكاء من يحملون الصفات الوراثية الجيدة (الشعوب الغربية)، ومن ثم كانت تلك الشعوب الحاملة للصفات الوراثية المتدنية في حاجة دائمة إلى الشعوب التي تحمل صفات وراثية متقدمة على المستوى العلمي والسياسي والاجتماعي والثقافي. والسؤال الذي أدعو القارئ الكريم إلى التفكير فيه هو: هل نحن، ككائنات حية، محكومون بجينات وراثية محددة تشكل في النهاية طريقة تفكيرنا ومعامل ذكائنا، ومن ثم نوعية مجتمعاتنا وأشكال حكمنا؟ بعبارة أخرى، هل ثمة طبيعة إنسانية جوهرية محددة، منذ لحظة الولادة، تظل كما هي دون تغيير حتى لحظة الوفاة، الأمر الذي يجعلنا، ككائنات حية، لنا قدرنا المحتوم الذي لا يمكن الفكاك منه؟ إن هذا التساؤل يجعلنا نعيد النظر في تراث ضخم من النظريات العلمية الزائفة في علم الوراثة، وفي الوقت ذاته نعيد التفكير في هذا العلم بحثاً عن المجالات الأخرى التي شكلت هذا العلم ومنها الثقافة بمفهومها الشامل.