مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

مدينة الكتب البريطانية وواقع الثقافة العربية

مما لا شك فيه أن مبيعات الكتب الورقية على مستوى العالم بدأت تتراجع بعد انتشار شبكة الإنترنت والنشر الإلكتروني، وقيام الكتاب الإلكتروني بمنافسة الكتاب المطبوع وزلزلة عرشه، ما دفع العديد من المكتبات إلى الإفلاس وإغلاق أبوابها، وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا.
فالثورة الكبيرة التي أحدثها الكمبيوتر وشبكة الإنترنت بدأت تفرز العديد من المستجدات والتطورات التي غيّرت وجه الحياة وتغلغلت في شؤونها المختلفة، وغيرت الطريقة التي تحيا بها الشعوب، وحولتها من حياة تقليدية إلى حياة شبه إلكترونية.
ومن مظاهر تلك التطورات ظهور الكتب والمكتبات الإلكترونية التي أحدثت ثورة فعلية في مجال النشر، وأصبحت تنافس وبقوة الكتاب المطبوع الذي يزيد عمره عن 550 عاماً، ما سيترتب عليه تغيير المفاهيم الحالية الخاصة بتقنيات النشر والطباعة والقراءة والاتصالات.. والذي جعل البعض يسارع في التنبؤ بانتهاء عصر الكتاب المطبوع، واضمحلال دور الكتب الورقية والمكتبات التقليدية.

جنة محبي الكتب
ولكن رغم هذه الثورة الإلكترونية الفائقة السرعة.. تبدو في الأفق تلك المدينة البريطانية التي تشتهر ببيع الكتب، والحرص على هذا المورد الثقافي، وتثبيت عرشه.
إنها مدينة «هاي أون واي» التي تقع على ضفاف نهر واي في بويز ويلز، ببريطانيا، والتي تشتهر باسم «مدينة الكتب»، أو «جنة محبي الكتب»، حيث تحولت منذ عقود إلى سوق رائجة للثقافة، تحتضن الكتب والمكتبات والناشرين والكتاب والأدباء من مختلف دول العالم، وينتشر فيها أكبر عدد من الكتب في مكتبات ملأت الأزقة والشوارع والقلاع والمباني التاريخية القديمة.
فهذه المدينة تستقطب عدداً كبيراً من عشاق الكتب الباحثين عن أفضل الأسعار عبر أكثر من 40 مكتبة، وتُعد موطناً لمهرجان الأدب الذي يجلب 80 ألف كاتب وناشر من جميع أنحاء العالم في نهاية شهر مايو من كل عام.
تاريخ المدينة
بدأت قصة هذه المدينة مع الكتب عام 1961م، عندما افتتح «ريتشارد بوث»، وهو رجل محب للكتب، أول مكتبة لبيع الكتب المستعملة في حيه، وذلك في محطة إطفاء قديمة، وأعلن أن مدينته أصبحت «مملكة للكتاب»، ثم عمل على توظيف شابين معه وأرسلهما إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث شهدت المكتبات فيها تراجعاً كبيراً أدى إلى إغلاقها، وذلك ليقوما بشراء الكتب وشحنها في حاويات إلى هاي أون واي.
ومع مرور الوقت تبنت مكتبات أخرى مبادرة ريتشارد، وبدأت تبيع الكتب في الأرفف والمحلات التجارية، كما ابتكرت عدة طرق لبيع الكتب المستعملة في كل زاوية من زوايا المدينة حتى أصبحت هاي أون واي في السبعينيات تعرف عالمياً بمدينة الكتب، وهي تستقبل اليوم نحو 500 ألف سائح سنوياً.

أغرب المكتبات
ومن أشهر وأغرب المكتبات في هذه المدينة تلك التي يطلق عليها اسم «مكتبة الثقة»، وهي عبارة عن رفوف متوزعة في أرجاء المدينة تضم آلاف الكتب التي لا يحرسها أحد، ويقوم المشتري باختيار الكتب التي يريدها ويضع ثمنها المحدد عليها في صندوق البريد.
ومن أشهر هذه المكتبات أيضاً هي مكتبة واقعة في ساحة قلعة هاي في قلب المدينة التي يعود تاريخ بناؤها إلى القرن الثاني عشر الميلادي، وهي عبارة عن رفوف خشبية في الهواء الطلق مثبتة على أحد جدران القلعة تبيع الكتب بواحد جنيه إسترليني، وفي هذه المكتبة يجد المشتري صندوقاً عليه فتحة صغيرة وبطاقة صغيرة كتب عليها «ادفع هنا».

مهرجان للآداب والفنون
 ومع الرواج الفكري والثقافي الذي أحدثته هذه المدينة، بدأت منذ عام 1988م، في استضافة «مهرجان هاي للآداب والفنون» الذي استقطب على مر السنين أشهر المؤلفين من أمثال سلمان رشدي، وديفيد سايمون، وستيفن فراي، وسيمون سينغ، كما شهد مهرجان عام 2001م، حضور الرئيس بيل كلينتون، وتطور المهرجان في السنوات الأخيرة ليشمل عروضاً موسيقية وعروضاً للأفلام.
الكتب في العالم العربي
ولا شك أن وجود مثل هذه المدينة المتخصصة في بيع الكتب والترويج لها يثير في النفس بعض الشجن، إذا ما نظرنا إلى واقع الحال في عالمنا العربي والإسلامي، ووضع الكتب والمكتبات ودور النشر العربية.. صحيح أن لدينا بعض الأحياء المتخصصة في بيع الكتب، مثل سور الأسبكية في القاهرة، إلا أننا لم نر مدينة عربية أو إسلامية قد تخصصت في تجارة الكتب مثل تلك المدينة البريطانية التي ارتفع صيتها، ومازال الوضع الثقافي والاهتمام بالكتب لم يحظ بما يستحق من رعاية واهتمام في العالم العربي.
فالثقافة ليست ترفاً، بل هي للإنسان مثل الماء والهواء، ومازال الكتاب يمثل المصدر الأول للثقافة والفكر على مستوى العالم، رغم ما أحرزته وسائل الاتصال الأخرى من تقدم مذهل على مستوى الصحف والفضائيات وشبكة الإنترنت.. ومازال المستوى الثقافي والفكري لأي شعب أو دولة يقاس بحركة نشر الكتب ورواجها وانتشارها وحجم الإقبال عليها في هذه الدولة.
ولا شك أن حركة نشر الكتب ورواجها تتأثر سلباً وإيجاباً بالوضع الاقتصادي لكل شعب، فالكتب لا تخرج عن كونها سلعة تحتاج إلى رأس مال وإمكانيات وممولين ومستهلكين، كما تتأثر أيضاً بالمستوى الاجتماعي والثقافي للشعوب، ومدى انتشار الوعي الفكري والثقافي، وعدد المتعلمين والمثقفين الذين يعدون منتجين للثقافة ومستهلكين لها في نفس الوقت.

التردي الثقافي
والواقع يشير إلى أن الوضع الثقافي في العالم العربي مصاب بحالة من التردي، قد تصل إلى حد الفقر الثقافي، فالباحث التونسي «الحبيب الإمام» شخَّص في كتابه «الاقتصاد الثقافي»، الوضع العربي فيما يتعلق بالثقافة والقراءة ونشر الكتب، والتي تعد بمثابة ترمومتر للحالة الثقافية والفكرية، عندما أكد بالإحصائيات والأرقام أن معدل نشر الكتاب في العالم العربي لم يتجاوز نسبة 0.7 %، وأن نصيب كل مليون عربي من الكتب المنشورة في العالم لا يتجاوز الثلاثين كتاباً، مقارنة مع 584 كتاباً في أوروبا، و212 كتاباً في أمريكا.
وقال إنه بحساب النسبة المئوية لحركة نشر الكتاب في العالم لم يتجاوز نصيب العالم العربي 0.7 % بينما كانت النسبة 1.1 % عام 1960م، في حين تصل نسبة النشر في أوروبا إلى 54 % وفي آسيا 23 %، حسب آخر تقارير اليونسكو.. وفي مجال توزيع الصحف عبر العالم لم يتجاوز نصيب الدول العربية 1.52 % بينما تتجاوز نسبة توزيع الصحف في أوروبا 24 %.

تراجع نشر الكتب
والأرقام السابقة تشير إلى تراجع حركة نشر الكتب في المنطقة العربية عما كانت علية في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، فقد صدرت إحصائية عن منظمة اليونسكو حول انتشار الكتب في تلك الفترة في البلدان المتقدمة والنامية، وأشارت إلى أن عدد الكتب في البلدان المتقدمة بلغ 227 كتاباً لكل مليون مواطن عام 1965م، ووصل هذا العدد إلى 504 كتب لكل مليون مواطن عام 1986م.
وفي أمريكا اللاتينية والكاريبي كان عدد الكتب 77 كتاباً لكل مليون مواطن عام 1965م، ووصل إلى 125 كتاباً عام 1986م. وفي آسيا كان العدد 58 كتاباً لكل مليون مواطن عام 1965م، ووصل إلى 67 كتاباً عام 1986م.
وأما في أفريقيا، وهي أكثر قارات العالم فقراً في نشر الكتب، فقد كان العدد 38 كتاباً لكل مليون مواطن عام 1965م، وتراجع إلى 36 كتاباً عام 1986م.

4 ملايين كتاب
وإذا نظرنا إلى المكتبات في العالم وحجم ما تضمه من كتب، نجد إحصائية أخرى صادرة عن اليونسكو أيضاً في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، حول أهم المكتبات العالمية من حيث الاختصاص وحجم الكتب، وفيها تأتي مكتبة موسكو في المقدمة، وتضم 30 مليون كتاب، ثم مكتبة واشنطن وتضم 22 مليون كتاب، ثم مكتبة لندن وتضم 15 مليون كتاب، ثم مكتبة لينجراد وتضم 12 مليون كتاب، ومكتبة هارفارد وباريس وتضم كل منهما 11 مليون كتاب، ثم مكتبة طوكيو وتضم 8 ملايين كتاب. 
أما المنطقة العربية كلها فكانت تضم في تلك الفترة 4 ملايين كتاب موزعة بين دولها المختلفة، وهي تخلو تماماً من أية مكتبة كبرى كالمكتبات الموجودة بالخارج. وهذه الأرقام تكشف بوضوح حجم الهوة الثقافية بين العرب والغرب، وتراجع الاهتمام الثقافي لدى العرب، عما كان عليه الوضع الثقافي في الستينيات والثمانينيات من القرن المنصرم.

 العرب لا يقرؤون
وفيما يتعلق بالقراءة ذاتها أثبتت إحصائيات أخرى جديدة أن الطفل العربي لا يقرأ خارج المنهج الدراسي سوى 6 دقائق فقط، وأن القراءة في الوطن العربي ما زالت منخفضة وضيقة، حيث لا توجد حصص مخصصة للقراءة الحرة، ولا يعتمد الدارسون على المكتبة في الجامعة والمدرسة باعتبارها مرجعية علمية بالرغم من الانفجار المعلوماتي، وأن كل 20 عربياً يقرؤون كتاباً واحداً في السنة، بينما يقرأ الأوروبي 7 كتب في العام.
 ومما لا شك فيه أن متطلبات العصر تستدعي تجاوز محدودية المناهج والكتاب المدرسي، لخلق أفق واسع يحول القراءة إلى متعة للاطلاع على الحضارات وتعلم المهارات.

البنيان المعرفي 
وخبراء التربية يؤكدون أن بنيان المعرفة المتماسك لا يتم إلا عبر الكتاب، ومن خلال القراءة لأنها وحدها القادرة على التحفيز للمناقشة والتحليل والارتباط مع المعلومة بشكل إيجابي ومثمر. كما أن هناك العديد من الاحتياجات التي تغذيها القراءة، أهمها الجانب الاجتماعي والأخلاقي والديني والاقتصادي، ففهم النفس والبيئة وتأكيد الشعور بالانتماء وتعلم المهارات الاجتماعية، واكتساب القيم والمبادئ الصالحة يبدأ من خلال تقبل الفكر المغاير والاستفادة من الخبرات المنقولة عن طريق الكتب، بالإضافة لتعريف الذات بالأنظمة والقوانين وفهم المؤسسات الاجتماعية والتفاعل معها.
pantoprazol 60mg oforsendelse.site pantoprazol iv
ذو صلة