مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

تازة .. مدينتان في واحدة

 

قصة مدينتين.. مدينة حكم عليها القدر بالانشطار إلى قسمين: تازة العليا وتقع على هضبة مرتفعة على نحو 600 متر عن مستوى سطح البحر، تحيط بها الجنان والبساتين وغابات الزيتون، وتضم عدة مآثر تاريخية قديمة. وتازة السفلى المنبسطة على السهول، وهي حديثة العهد بمبانيها وشوارعها وأزقتها وأسواقها ومصالحها الإدارية والتجارية والصناعية. ويصل بين المدينتين منحدر طويل مدرج ومسور وباب في الأعلى أطلق عليه باب الريح.
تقع المدينتان في منتصف الطريق بين مكناس ووجدة في موقع جميل وممتاز بين جبال الأطلس المتوسط وجبال الريف في ممر إستراتيجي مهم بين المغرب الشرقي وسهول فاس الخصبة. وقد أهلها هذا الموقع الرفيع لتلعب دوراً عسكرياً رائداً عبر تاريخ المغرب، لأنه يتحكم في طريق الغزو التي تعرف بمنفذ تازة، وتتعدد الحكايات والقصص والروايات حول اسم المدينة إلا أن الأقرب للواقع هو تيزي البربرية والتي تعني الفج.
أما عن تاريخ المدينة فهو غير معروف بالضبط إلا أنه من الواضح أنها بنيت قبل دخول الإسلام، وقد وجدت آثار الإنسان البدائي بهذه المنطقة، كما أنها عمرت من طرف عدة قبائل بربرية وعربية كالحياينة، وغياتة، ومكناسة، وبني هلال، وبني سليم، وبني وراين، وهوارة، وأولاد رحو التي كانت في البداية قبائل رحل إلا أنها مع اعتناقها الإسلام ديناً، استقرت على شكل دوارير (جماعات) قرب المدينة. إلا أن تاريخ المدينة المكتوب يرجع إلى عهد الأدارسة، وهي أول دولة إسلامية بالمغرب، فقد كان المولى إدريس الأول (الأكبر) أول من جاهد ونشر الإسلام بتازة، وصحبه أهلها حتى مشارف مدينة تلمسان بالجزائر، فاتحاً وبانياً ومشيداً، في القرن الثاني للهجرة.
خصوصية فريدة في المغرب
لقد أنعم الله على مدينة تازة بجمال طبيعي خلاب، ومناظر جذابة يحيط بها الخصب والماء وطيب الهواء من كل جانب، الشيء الذي جعل الكتاب والشعراء يتغنون بحسنها الفاتن، ويتفننون في وصفها ووصف حدائقها الغناء، ويشيدون بخيراتها. فهذا لسان الدين بن الخطيب يصفها قائلاً: (تازة بلد مشاع، وكشف قناع، ومحل ريع وإيناع، ووطن طاب هواؤه، وعذب ماؤه، وبان إشرافه واعتلاؤه، وجلت فيه مواهب الله وآلاؤه، عصيره ثمل، وأمر الخصب به ممتثل، وفواكهه لا تحصى، يمارى بها البلد الأقصى، وحبوبه تدوم على الخزن، وفخاره آية في لطافة الجرم وخفة الوزن، إلا أن ريحه عاصف، وبرده لا يصفه واصف، وأهله في وبال، من معرة أهل الجبال، وليوثه مفترسة وأخلاق أهله شرسة).
أما صاحب كتاب (الروض المعطار في خبر الأقطار) محمد بن عبدالمنعم الحميري (القرن الثامن الهجري) فيذكرها كما يلي: (أول بلاد تازة حد ما بين المغرب الأوسط وبلاد المغرب في الطول، وفي العرض البلاد الساحلية مثل وهران ومليلية وغيرهما، وقد بني فيها في هذا العهد القريب مدينة الرباط أعني في جبال تازة، وهي كبيرة في سفح جبل عال مشرفة على بسائط تشقها جداول المياه العذبة عليها سور عظيم، وهي في فسحة من نحو ستة أميال ما بين جبال، تنصب إليها من تلك الجبال مياه كثيرة وأنهار تسقي جميع بساتينها، ولها نظر كبير كثير الزرع والفواكه وجميع الخيرات).
ووصفها أحد الشعراء قائلاً:
هذه تازة وهذي رباها
هي كالتاريخ حتى مبتداها
أخت فاس هي في المجد إذا ما
ولمراكش الجميلة مرآها
فاسألوا رأس مائها فهو جار
يصدع اليوم قلبها بهواها
يتراءى كأنه مبتداها
طأطأ الدوح رأسه لعلاها
وبساتينها التي لا تضاهى
في تلال له الإله اصطفاها
من موقع رأس الماء الخلاب تبدو تازة على شكل قلعة محصنة في اتجاه الشرق والغرب. وراءها تنتصب تلال مقدمة الريف، تحصنها كحارس كطبيعي وأمين، على مدار هذا المنعطف بصمت حوافر الخيول عتبات التاريخ.
تازة عاصمة الموحدين والمرينيين
كانت مدينة تازة أول مدينة اهتم بها عبدالمومن بن علي، إذ أخذت قبائلها بمبادئ الموحدين سنة 527هـ، ولما أدرك هذا الأخير أهمية موضع القبائل من الناحية الحربية، عمد إلى إنشاء رباط لجيشه على أرضها ثم شيد مسجدها وأقام عليها سوراً في سنة 529هـ. وقد مد عبدالمومن رباط تازة بجيش كامل العدد والعدة فأضحى -فيما بعد- حامياً لحدود المغرب الأقصى من جهة الشرق، وحامياً للجزائر ثم أفريقية. وبهذا استلبت مدينة تازة مكانة (تنمل) -مركز الموحدين الأول الذي يقع جنوب المغرب على بعد 115 كلم من مراكش- حربياً، فأصبحت مهمتها الحربية مقصورة على حماية المغرب.
لقد أصبحت تازة عاصمة بالفعل للموحدين، إن لم تكن طيلة السنين فهي على الأقل كذلك، في بعض الفترات من حياتها. وحتى عندما جعل الموحدون حاضرة مراكش عاصمة لملكهم ومستقر قيادة الجيش العامة، ظلت تازة محتفظة بأهميتها الحربية لوقوعها على الطريق المار بين المغرب والمشرق وأخذت بأسباب النماء حتى أضحت مدينة كبيرة غنية بدورها وقصورها ومساجدها ومعاهدها العلمية وبساتينها وميادينها العامة.
أما في عهد المرينيين -الذين جاؤوا بعد الموحدين- فقد عرفت المدينة نشاطاً ورواجاً سياسيين، وما ينشأ عنهما من اتصال وانفصال وما ينتج عن الجميع من حضارة وعمران ما زالت معالم البعض منها ماثلة حتى الآن.
لقد توجه إليها بنو مرين بنفس العناية والحماس الذي توجهوا به إلى عاصمتهم فاس، بل إنهم اتخذوا من تازة مدرسة لفلذات أكبادهم، وقاعدة للأمراء وكبار رجال الدولة، فبلغت في عهدهم ما لم تبلغه معظم المدن في المغرب الأقصى. وفي أيام السلطان يوسف بن عبدالحق المريني كان النهوض من تازة إلى الأندلس مباشرة بقصد الجهاد، وقبل هذا كانت قاعدة لغزو تلمسان، ما جعلها تتوافر على صفات العواصم الإسلامية وتصطبغ بصبغة المدن المهمة ذات الأسوار التاريخية المنيفة والجامع الأثري العتيق، والقصور الشامخة والحدائق الغناء، وما يتبع ذلك من نقش وزليج وزخرفة وفسيفساء الشيء الذي ما زالت تزخر به الأمكنة إلى الآن، وخصوصاً في تازة العليا ذات الطابع الإسلامي الصرف، والزوايا الثمينة، التي تحتضن الكثير من رجال القوة والولاية والصلاح، والعدد الوافر من حملة الأقلام في كل ميدان من ميادين العلم والمعرفة.
كما كانت مركز إشعاع ثقافي وعلمي وحضاري. وفي الحوالات الوقفية انعكاس لأخبار تازة ونشاطها العلمي والثقافي في المعامل والمصانع التي كانت تحتضنها، من دباغة وصباغة وسبك النحاس والزجاج والورق، ونحن نعلم عن المثل المغربي السائر الذي يضرب بصابون تازة والذي يعبر عن جانب من جوانب اهتمامات المدينة، بمعنى صناعة الصابون التي تعتبر من أبرز الدلالات الحضارية.. كراسي العلم، والخزانات العلمية، والمدارس الطلابية.
لقد كانت تازة بذلك في صدور القواعد الثقافية الكبرى للمغرب، مثل: فاس، وسبتة، ومراكش، وسلا، ومكناس.
ويذكر العلامة الأستاذ محمد بن أحمد الأمراني رئيس فرع رابطة علماء المغرب بتازة، مجموعة من رجالات تازة الذين انتقلوا منها لأسباب خاصة -في هذه العصور- إلى مدينة فاس واستقروا بها وبغيرها، بحيث كان نشاطهم الأدبي والعلمي والدبلوماسي خارج بلادهم (تازة) كابن البقال التازي الفقيه الفيلسوف دفين مدينة فاس. وإبراهيم التسولي التازي الملقب بابن أبي يحيى السفير المغربي لدى السلطان الحسن المريني، والذي توفي بفاس أو تازة. والشاعر أحمد بن شعيب الجزنائي التازي الذي اتخذه أبو الحسن المريني كاتباً في ديوان إنشائه، والذي مات غريقاً بشواطئ تونس. والشاعر الصوفي إبراهيم التازي دفين وهران بالجزائر. والشيخ أحمد زروق دفين مصراتة بليبيا. والفقيه النوازلي أبي الحسن التسولي شارح التحفة، دفين فاس، وغير هؤلاء من رجال الفقه والتصوف.
تازة في عهد الوطاسيين والسعديين
على إثر انهيار دولة بني مرين وتصدع أركانها تصدعاً، كان من بين معطياته انقسام المغرب إلى مناطق نفوذ واحتلال سواحله من طرف البرتغال، فالسعديون اتخذوا من مراكش عاصمة لهم لقربهم من منبت دولتهم في بلاد سوس ودرعة. والوطاسيون مكثوا في فاس ونواحيها يقاومون هجمات السعديين والثوار، ولم ينس السلاطين من بني وطاس ما كان لمدينة تازة مع آبائهم وأجدادهم من ذكريات عذبة، وأيام صافية بيضاء، فلم يتنكروا لها بالمرة ولا أنستهم نشوة سلطانهم الجديد، وظفرهم بمدينة فاس، ما كان لهذا الحصن الحصين من فضل على توطيد دعائم ملك بني مرين. إذاً فلا غرابة إذا قال الحسن الوزان الذي زار مدينة تازة في العهد الوطاسي بأنها: (تحتل الدرجة الثالثة في المملكة من حيث المكانة والحضارة، ففيها جامع أكبر من جامع فاس، وسكانها الشجعان كرماء.. من بينهم عدد كبير من العلماء والأخيار والأثرياء، لأن أراضيها تنتج أحياناً ثلاثين ضعف ما يبذر فيها.. ومن عادة ملوك فاس لهذا العهد أنهم يقطعون لهذه المدينة لثاني أبنائهم. ومن الواجب، والحق يقال أن تكون حاضرة المملكة لطيب هوائها صيفاً وشتاء).
إلا أن سلاطين بني وطاس في فاس أخذت رقعة نفوذهم تضيق باستمرار حتى اقتحم عليهم محمد الشيخ السعدي حاضرتهم وأخرجهم منها سنة 950هـ، وخلص المغرب كله للسعديين. فقام أحمد المنصور السعدي بتشييد حصن البستيون (ترجمة حرفية للكلمة الفرنسية BASTION) وتعني الخط المتقدم أو الموقع الحصين. وكانت وظيفته هي التصدي للمد العثماني الزاحف من الشرق، والذي وصل في بعض الفترات إلى مدينة فاس نفسها قبل أن يرتد على أعقابه مهزوماً. ويعد الحصن اليوم من معالم تازة البارزة، ويشتمل على سراديب أرضية مختلفة وأقبية متعددة كانت تستعمل لتخزين الأسلحة والذخيرة ومواد التموين. وعند أسفله بقايا لمرابض الخيول. أما سطح البناية فيشرف على الجزء الشرقي للمدينة بكامله. وظل الحصن يقوم بدور المراقبة الدفاعية طيلة الفترات التاريخية المتعاقبة، بما في ذلك فترة الحماية الفرنسية باعتباره موقعاً مهماً.
لم ينج عصر المنصور السعدي من دسائس ومؤامرات أفراد الأسرة وثورات القبائل ضد السلطة المركزية كثورة ابن قرقوش سنة 996هـ، وثورة الناصر السعدي سنة 1002هـ، ثم ثورة ابنه المأمون سنة 1010هـ. وقد اكتسبت هذه الثورات أوجهاً مختلفة باختلاف أغراض القادة الذين يرأسونها أو قوة القبائل التي تدعمها. فإذا كان ابن قرقوش لم يستطع إرضاء القبائل التي حوله فالناصر سيحاول إرضاءها بأخذ تازة وجعلها عاصمة له، وفصلها عن السلطة المركزية، ولم يمض وقت طويل حتى دخلت بوادي مليلية وتازة وفاس تحت قيادة الناصر. ويذكر المؤرخ الناصري في كتابه الاستقصا: أن المغرب قد اهتز لقيام الناصر بالثورة، وتشوقت النفوس إليه لميل القلوب عن المنصور لشدة وطأته واعتسافه للرعية. وقد تم القضاء على هذه الثورات كلها من طرف المنصور. وبموت هذا الأخير ضعُف أمر هذه الأسرة السعدية وتفرق الملك بينهم وبين غيرهم من الطامعين.
تازة في عهد العلويين
ظهر العلويون والمغرب أشد ما يكون تمزقاً وضعفاً، فالدلائيون يحكمون تادلا وسلا ومكناسة والغرب كله، إلا مراكش وسجلماسة، والخضر غيلان قد قام بالفحص (طنجة وأصيلا) منذ سنة 1063هـ وعبدالكريم الشباني وولده بعده بمراكش، وسجلماسة ودرعة والمغرب الشرقي تحت قيادة الأمير محمد بن الشريف العلوي منذ سنة 1050هـ، وفي الريف (شمال المغرب) كان الرئيس أبو محمد عبدالله أعراس، وفي تطوان كان المقدم أحمد النقسيس. وفي تازة كان اليهودي ابن مشعَل، الذي كان يعيش بين أظهر قبائل بني يزناسين وكانت له أموال طائلة وذخائر نفيسة وصولة على المسلمين، وكان يخرج في هيئة الملوك يحيط به الأتباع والخيل، فقتله الأمير رشيد العلوي، واستفى كثيراً من أمواله في بناء الدولة. وقد وضعت كثير من الأساطير حول هذه الحادثة وحول مساعدة بعض طلبة فاس للأمير الذي لم ينس هذه الممنونة فأذن بإقامة مهرجان سلطان الطلبة الذي يعتبر تتويجاً للعلم وتقديراً لرجالاته.
وهكذا اقتحم الأمير رشيد مدينة تازة بعد محاربة طويلة، وبايعه أهلها والقبائل التي حولها وأقام بها أياماً. ويعلق الدكتور عبد الهادي التازي على هذا الحادث قائلاً: (كانت تازة عنيفة قوية وهي تدافع عن هويتها الإسلامية، وهل ينسى التاريخ أن تازة هي التي انتبهت أول من انتبه للخطر الذي كان يهدد العالم الإسلامي قبل أربعة قرون من إنشاء الكيان الصهيوني اليوم، وماذا تعني حادثة ابن مِشعل الذي كان يعتزم إنشاء كيان يهودي في الإقليم؟!. لقد أقبرها السلطان مولاي رشيد).
لقد وحَّد الرشيد المغرب بالقضاء على الزعماء المنقسمين وأدخل كل الحواضر المغربية في طاعته فتمت له بيعة المغرب كله. وأخذ بعده أخوه المولى إسماعيل على عاتقه ضمان استمرار الدولة وإكمال بنائها. فقصد مدينة تازة وأنزل بها ألفين وخمسمائة من خيل العبيد بعيالهم وولى عليهم منصور بن الرامي، وشيد قلعة بجوار قصبتها القديمة، وعين لكل قبيلة من قبائل تلك البلاد قلعتها التي تدفع منها زكواتها وأعشارها لمؤونة العبيد وعلف خيولهم، ومن وقع في أرضه سوء عوقب عليه من طرف قائد تلك القلعة، وانتشر الأمن في البلاد وسادت الطمأنينة جميع العباد، واستمرت تازة في ظل الحكم العلوي إحدى القواعد الرئيسة في المغرب إلى مطلع القرن العشرين، حيث استقر بها الجيلالي الزرهوني المعروف ببوحمارة وجعلها عاصمة لإمارته، بعدما ثار على السلطة المركزية وأجج الثورة في منطقة جبالة، وآيت يوسي، وكروان، وغياتة، والحياينة، فتلا ذلك فرض الحماية الأجنبية على المغرب سنة 1912م فاحتلت فرنسا مدينة تازة في 10 مايو 1914م على يد القائد الفرنسي بَاومكَارطِنْ إثر معركة قادها المقاوم الحجامي في جبال تسول.
معالم المدينة
تزخر مدينة تازة بالعديد من المآثر العمرانية والمواقع الطبيعية الرائعة. ففي مجال المعمار الديني توجد بالمدينة ثلاثة مساجد مهمة وهي: المسجد الأعظم، ومسجد لالا عذرا، ومسجد الأندلس. وقد شيد الأول الخليفة الموحدي عبد المومن بن علي سنة 542هـ ولكن بشكل أبسط مما هو عليه الآن. وقد تم توسيعه وإدخال تحسينات عليه في عهد المرينيين، وبقطع النظر عن الآيات البينات من جميل النقش وبديع الزخرف، التي يتحلى بها المنبر والمحراب وما يليه، فقد توج الجميع بالثريا النحاسية البديعة الصنع، والتي يبلغ وزنها 32 قنطاراً، وعدد كؤوسها 514. وتعد بحق مفخرة تازة. وقد نقش في أعلى دائرتها ما يلي: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الله نور السماوات والأرض..) إلى نصف الآية الثانية بعد هذه. وفي أسفلها نجد الثريا تتحدث عن نفسها بما نقش على لسانها من أبيات هذا مطلعها:
يا ناظراً في جمالي حقق النظرا
أنا الثريا التي تازا بها افتخرت
أفرغت في قالب الحسن البديع كما
في مسجد جامع للناس أبدعه
في عام أربعة تسعون تتبعها
ومتعي الطرف في حسْني الذي بَهَرَا
على البلادِ فما مثلي الزمان يرَا
شاء الأمير أبو يعقوب إذ أمرَا
ملك أقام بعون الله منتصرَا
ست المئين من الأعوام قد سطرَا
 هذا بالإضافة إلى الثريا الثانية التي هي عبارة عن ناقوس جلب من إحدى الكنائس الإسبانية، وهو من أكبر الأجراس الكنائسية وأعظمها، ويلي ذلك أربع رخامات شمسية لإحصاء أوقات الصلاة، ثم عدد آخر من اللوحات الزليجية التي نقش عليها الكثير من الحقائق والبيانات. يقول طيراس: هناك مسجدان وصلا إلينا بكاملهما، ويخبراننا عما كان عليه الفن المريني الأول: المسجد الكبير في فاس الجديد، والثاني: المسجد الأعظم بتازة.
كما توجد بالمدينة العديد من الزوايا والأضرحة وبعض الحمامات والفنادق العتيقة (تحول بعضها إلى مركبات تجارية)، ومشور الجيلالي الزرهوني الملقب (بوحمارة). والبستيون والأسوار ذات الأبراج، ويعتبر برج سارازين الذي يقع عند الطرف الجنوبي للسور، امتداداً لحصن يعود إلى العصر الموحدي، إضافة إلى معالم أثرية وطبيعية وسياحية أخرى.
لقد تغيرت ملامح المدينة القديمة، فغادرها الكثير من سكانها التقليديون إلى المدينة الجديدة (تازة السفلى) أو إلى جهات أخرى، وتحولت الدور الكبرى إلى بيوت صغيرة يقطنها الفقراء.
إن الزائر إلى تازة لابد وأن يسمع عن مغارة فِريوَاطو التي تعتبر ثاني مغارة في العالم من حيث الطول والعمق بعد مغارة جيغيتا في بيروت، وتقع على بعد عشرين كيلومتر جنوب المدينة، على امتداد منحدر (تيسيدلت) بعلو يمتد من 1432 إلى 1719 متراً، قرب ضاية شيكر وبمحاذاة الطريق الثانوي رقم (311) المؤدي إلى بابودير وسيدي عبد الله عبر باب أزهار.
وقد تم اكتشافها من طرف الفرنسيين سنة 1932م، وكان أول ما ظهر منها تلك الفتحة المواجهة للسماء مباشرة، إلا أنه سرعان ما تم اكتشاف ممر جانبي وأصبح بإمكان الجمهور التمتع بمتاهاتها الرهيبة. ويمكن الوصول إليها بسهولة عبر مدخل ضيق، وعليك أن تحسب الخطوات بحذر بعد ذلك إذ تمت 250 درجاً محمولاً في الهواء تقريباً، وهي من أهم المعالم السياحية في المنطقة وتستقطب سنويا آلاف السواح من داخل المغرب وخارجه.
تازة اليوم
تازة اليوم عمالة (محافظة) تضم دوائر: أكنول، وكرسيف، وتاهلة، وتيناست، وأحواز تازة، وتصل مساحتها 15465 كلم2، وساكنة تصل إلى 588400 نسمة. بينما تصل مساحة المدينة إلى سبع كيلومترات مربعة، وساكنة تربو على 28267 نسمة، أي 3253 أسرة تحتل تازة العليا في موقع عمراني متميز جنوب تازة السفلى (الجديدة). ونظراً لضيق المجال الحيوي وتزايد الهجرة منها وإليها، فإن المدينة العتيقة تعرف كثافة سكانية مرتفعة قياساً إلى بعض الحواضر المماثلة. يعمل سكان تازة بالفلاحة والتجارة والصناعة التقليدية: كصناعة النسيج والنقش على الخشب والخياطة التقليدية، وصناعة الزرابي والأغطية التقليدية ودباغة الجلود..
أما الصناعة الحديثة بالمدينة فهي دون المستوى المطلوب إذا ما قورنت بجيرانها (فاس، وجدة، مكناس) ويعزا ذلك إلى القيود الطبيعية والسوسيو اقتصادية التي تقف في وجه التنمية الصناعية. ويعتبر سوق العطارين أقدم وأهم مركز تجاري في قلب المدينة العتيقة وقد عرف بدوره تحولاً كبيراً أثر بشكل سلبي على المدينة، ذلك أنه انتقل ومنذ أواسط الثمانينات من تنوع الخدمات والحرف إلى الاقتصار على بيع الملابس الجاهزة والسلع المهربة من مدينة مليلية المحتلة عبر الناظور أو وجدة!
كما تتوافر المدينة على سوق للجملة يستقطب أنواعاً متعددة للخضراوات التي يتم جلبها من منطقة حوض ملوية ومكناس وأكادير، وتحتل بناية جد متواضعة رغم موقعها المتميز بالمدينة العتيقة.
إن أهم ما تفتقر إليه المدينة بشقيها هو الفنادق السياحية بحيث لا يوجد بهما إلا خمسة فنادق، اثنان منها مصنفة! كما تعاني من أزمة الماء، والغريب في الأمر أن تازة كانت إلى حدود نهاية السبعينات خزاناً مائياً حقيقياً لوقوعها في منطقة جبلية تتاخم عدداً من المنابع، غير أن هذا الوضع سرعان ما انقلب رأساً على عقب بفعل غياب تخطيط مستقبلي وعقلاني لتصريف وتدبير الماء العذب خصوصاً بعدما عرفت المدينة زيادة ديمغرافية ملحوظة حيث تضاعف عدد سكانها على مدى عقدين من الزمن. إضافة إلى توالي سنوات القحط التي أثرت على المخزون المائي للمنطقة. وبات الخصاص يشكل القاعدة والاكتفاء هو الاستثناء. وتراجعت المساحات الخضراء بشكل ملموس، وأغلقت عدد من المرافق الحيوية أبوابها لارتباطها بمادة الماء كالمسبح البلدي الشهير على الصعيد المغاربي وأهم مفاخر المدينة، والذي ظل يشكل في فصل الصيف متنفساً وحيداً للراحة والمتعة لأبنائها والوافدين عليها، وقد هيأ أبطالاً في السباحة نالوا شهرة واسعة على الصعيدين الوطني والدولي.
وأغرب ما في الأمر أن المدينة تكسوها الثلوج في فصل الشتاء وتعيش الظمأ في الصيف!
أما الإنسان التازي فقد عرف بالشهامة والشجاعة وعزة النفس والكرم. عوَّدته طبيعة بلاده القاسية على مواجهة الأحداث المختلفة والمفاجآت التي تكون أحياناً في غير مصلحته، ورغم ذلك يعتز بمدينته ويفتخر بماضيها المجيد، ويتطلع دائماً إلى ما هو أفضل.. ويكفيهم فخراً ما قاله فيهم الشاعر أبو عبد الله الهواري:
قوم كرام بتازة فاق جودهم
كلا وحق الذي أبدى مودتهم
لله درهم من معشر سكنوا
يسلو بهم كل من رأى محيَّاهم
إن جئتهم نلت ما ترجو وتأمله
جود البلاد التي أبصرت في سفرِي
ما أن بدا مثلهم في البدْو والحضرِ
حصنا يكن الفتى من شدة المطرِ
وينجلي همُّه في الورد والصدرِ
وانتجعت نداهم فزت بالظفرِ

 

ذو صلة