مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

صالح الحريبي (1945 - 2016) .. صوت الرحالة النجدي

 

 


بعض الأصوات دلالة على عصرها وربما تكون علامة الجيل.
إن ما يميز هذا الصوت عدا عن تملكه موهبة صوتية بارعة في مساحاتها الصوتية ومقدراتها الأدائية واستطاعتها تمثل مسموعاته وإعادة إنتاجها صوتياً، هي ثقافته المختلفة الجامعة للتراث الثقافي غير المادي من أربعة مدارس غنائية عربية، الأولى: النجدية في بعدها الكويتي الجامع ما بين الفنون الأدائية البحرية والصحراوية والقروية، والثانية: العراقية بفرعها الزبيري -ذي المكون النجدي- وفرعها البصري الذي يتداخل فيها فن الخشابة مع فن الفجري في الخليج لكونه من الفنون الأدائية الخاصة بعمال البحر، والثالثة: المصري بأدوارها وطقاطيقها، والرابعة: الشامية بقدودها ومواويلها.
فقد تجاوز الحريبي انطلاقته بأغنية (ليش بس يعني) (1963) التي كتبها ولحنها يوسف المهنا:
(ليش بس يعني أنا اشتريك وانت تبيعني
 كنت في الأول حبيبي من غيَّرك يا ترى
 وانت من الدنيا نصيبي أحلفك شنهو جرى
قول السبب أمرك عجب وشغلني..ليش بس يعني..)
على أنه يعد -أي الحريبي- أول جيله سابقاً لمصطفى أحمد وحسين جاسم وعبدالكريم عبد القادر، ووضع الأمل عليه بعد توقف مفاجئ للصوت الكبير شادي الخليج -عاد مستأنفاً عام 1974- مع وجود غريد الشاطئ الصوت الجهوري الكبير، حيث طوت هذه الحناجر عهد الحناجر المتعبة من مشق الجمَّالة وخدوش البحارة ونياحة الفلاليح.
إن تلك الظروف جعلت من صوت عوض دوخي يحمل كل العلامات الموروثة، واستمر شهادة على الماضي حاضراً ولو إلى حين بينما توارت معظم الأصوات الكبيرة إما بالرحيل مثل عبد الله فضالة وإما بالابتعاد مثل عبداللطيف الكويتي وعائشة المرطة ومحمود الكويتي.
ففي خضم بداية الأغنية الطالعة من رحم التراث الثقافي غير المادي المتنوع المصادر سواء من فنون الحضر كالصوت واللعبوني أو فنون الساحل كالفجري والخماري أو فنون القرى كالسامري أو فنون البدو كجرة الربابة والعرضة.
حيث تنكَّب تلك البدايات كل من الملحنين سعود الراشد بصوته وأحمد الزنجباري ويوسف دوخي وأحمد باقر بين صوت شادي الخليج وعوض دوخي كذلك بديعة صادق ومائدة نزهت وحورية سامي، فإن الجيل اللاحق من الملحنين بدت تظهر معالم طموحه في أغنية تعبر عن زمانها ومكانها تستعيد بعض العناصر الملهمة والقادرة على البقاء عند كل من عبدالرحمن البعيجان وخالد الزايد ومرزوق المرزوق وغنام الديكان وعبد الرب إدريس.
فظهرت ثنائيات بين الملحنين والحناجر، حين التمَّ البعيجان على صوت حسين جاسم والديكان على مصطفى أحمد وإدريس على عبدالكريم عبدالقادر.
ما جعل الحريبي يتخذ من طريقة القبض على الجمر بحمل التراث الثقافي غير المادي، ولعل حفل الكشافة (28) عام 1974 كشف عن موقف ثقافي عميق الاشتداد بالانتماء والتحقق في تمسكه بالعروبة الثقافية جاعلاً من التراث الثقافي غير المادي العربي مرتكزاً أساسياً كاسراً كل الحدود ولغة الهزائم، فقد تغنى فيه بالطقطوقة المصرية والقد الحلبي.
ولم يثنه ذلك عن استعادة غناء نماذج جميلة تركها كل من المبدعين الكويتيين مثل عبداللطيف الكويتي وعبدالله فضالة ومحمود الكويتي، في فن الصوت واللعبوني والسامري.
فقد تمكن من تشرُّب وأداء فن اللعبوني، من المدرسة النجدية في نموذج (العين هلت) (أحمد الجابر- صالح الكويتي):
(العين هلت دمعها.. والناس غافين
 والروح   ذابت   والحشا.. في النار تصلاه
 على عشيرٍ صابني.. في طرة العين
 مكن صوابه في الحشا.. ويلاه ويلاه)
ومن المدرسة العراقية شارك فرق الخشابة -صار مصطلحاً لميزان إيقاعي- في أداء المقام العراقي والبستات -الأغاني الشعبية-، ولعل أظهرها أداءه لقصيدة (المجرشة) للشاعر عبود الكرخي (1861-1946)، التي تغنى بها المطرب العراقي الكبير يوسف عمر (1918-1986)، وهي تعرض شكوى المرأة المقهورة:
(ذَبّيت روحي عالجرش وأدري الجرش ياذيها
ساعة وأكسر المجرشة وألعن أبو راعيها
ساعة واكسر المجرشة وألعن أبو السّواها
إش كم سفينة بالبحر يمشي ابعكسها اهواها..)
ومن المدرسة الشامية تغنى بنموذج من القدود الحلبية (يا مال الشام) من كلمات عمر الحلبي ولحن أبو خليل القباني (1833 - 1903):
(يا مال الشام ياالله يا مالي
طال المطال يا حلوه تعالي
يا مال الشام على بالي هواك
أحلى زمان قضيته معاك)
ومن المدرسة المصرية اتخذ نموذجاً من طقاطيق أول القرن الشعرين نموذج (آه يا حلو يا مسليني) لحن داود حسني (1870-1937):
(أه يا حلو يا مسلِّيني
يا اللي بنار الهجر كاويني
املا المدام يا جميل واسقيني
من كثر شوقي عليك ما بنام)
ونموذج طقطوقة (يا صلاة الزين) من كلمات محمود بيرم التونسي، وهي مسجلة نادرة في التلفزيون المصري عام 1960 بصوت ملحنها زكريا أحمد (1869-1961):
(ليلتهم حلوه ومحليها
رب القدره ومنورها..
اخوان امراء وقصدناهم
امراء وشعراء وجدناهم
كيف البحرين يا صلاه الزين
على الحلوين ياصلاه الزين..)
عدا أن الحريبي ترك مجموعة من الأغاني الخاصة به تعد الأرشيف المنسي له، وهي تحفظ كل تمثلات هذه الحنجرة الكبيرة الهادرة، ومنها (علموك) من فن الصوت، و(تطالعني) من الخماري، ومن السامري القروي (تحريتك) التي كتبها ولحنها يوسف ناصر وتغنى بها كثر من بعده:
(تحريتك سنينٍ طويلة.. وأنا خايف إن قلبك نساني
 على شوفتك كل يوم وليله.. اعد الدقايق والثواني)

 

ذو صلة