حين كتب جورج طرابيشي، رثاء الذات، في ذكره ست محطات صنعت حياته، كان لا يبالغ في وضع اللمسة الأخيرة على نتاجه. الرثاء الذاتي، الذي ضمنته كتابة شخصية لمقال أشبه بسرد «ضئيل» لمحطات، كان لا بد أن تصنع من هذا الرجل الألمعي، خامة نادرة لا يمكن تكرارها في المشهد الثقافي العربي.
ولندرة ظهوره الإعلامي، وابتعاده عن الأضواء، مازج طرابيشي محاولته إثراء المكتبة العربية، بين الترجمة والتأليف، والأهم حرصه على تكريس وقته ومعظم سنوات عمره لتطوير مشروع «تنويري» يسعى إلى زيادة الوعي ونقد العقل العربي، الديني والقبلي، في مساهمات «أنتروبولوجية» و«سوسيولوجية»، تعدّ من أهم القراءات الحديثة للإنسان العربي وتوجهاته ولغته.
المفكر الذي احتوت مكتبته على خمسة آلاف مجلد، وترجم وألّف أكثر من مئتي كتاب، كان مولعاً بالتنقيب، فبحث في الماركسية والنظرية القومية، وفي النقد الأدبي للرواية العربية، ومن أبرز مؤلفاته: «معجم الفلاسفة» و«من النهضة إلى الردة» و«هرطقات 1 و2» ومشروعه الضخم الذي عمل عليه أكثر من 20 عاماً وصدر منه خمسة مجلدات في «نقد نقد العقل العربي» أي في نقد مشروع الكاتب والمفكر المغربي محمد عابد الجابري.
حيث وصف عمله هذا، بأنه «موسوعي»، إذ احتوى على مراجعات للتراث اليوناني وللتراث الأوروبي الفلسفي وللتراث العربي الإسلامي، ليس الفلسفي فحسب، بل أيضاً الكلامي والفقهي والصوفي واللغوي.
كانت القضايا العربية شغله الشاغل، وكان احترامه شديداً للدين الإسلامي وتعاليمه الأخلاقية والحياتية، حيث أكد في أكثر من مناسبة، أن الإسلام دين انفتاح ومفكريه نادوا بتحرير العقل وفهم الكون كـ«طريق لفهم الله».
ولد طرابيشي في حلب في العام 1939، وانتقل لاحقاً للدراسة الجامعية في العاصمة دمشق، فدرس الأدب العربي، وحصل على درجة الماجستير في التربية، ما أهله لتطبيق مناهج التحليل النفسي على اللغة العربية، وأكسبه خبرة في المجالين.
انتقل من بعدها، ليعمل مديراً لإذاعة دمشق لمدة عام «1963 - 1964»، حيث لم يلبث طويلاً نتيجة خلافاته مع حزب «البعث العربي الاشتراكي»، حيث كان من أنصار الحزب في بداياته إلى حين استلامه زمام الحكم في سوريا. فنشأت خلافات أيديولوجية وسياسية، بين طرابيشي وقادة الحزب، أدت إلى اعتباره معارضاً سياسياً وزجه في السجن. وهنا كانت المفارقة حيث إن هذه التجربة المريرة كان لها الأثر الكبير في اختياره منهج حياته ومسيرتها، فمنذ ذلك الوقت اتخذ قراره بأن يصبح كاتباً، فوجد في الكتابة طريقه الأسمى لتقديم شيء لهذا المجتمع.
بعد خروجه من السجن توجه إلى بيروت، قبل نشوب الحرب الأهلية هناك، فانتقل مع زوجته الكاتبة هنريت عبودي وابنتيه، واستلم منصب رئيس تحرير مجلة «دراسات عربية» «1972 – 1984» الشهرية الصادرة عن «دار الطليعة»، لصاحبها الراحل بشير الداعوق، ولكن اشتداد الظروف الصعبة التي سببتها الحرب الأهلية آنذاك أجبرته على مغادرة لبنان إلى باريس، لينتسب إلى مجلة «الوحدة» «1984 – 1989» ويستلم التحرير فيها.
في فرنسا، تفرغ بشكل كامل للكتابة وترجم للعديد من المفكرين العالميين الذين أثّروا في الفكر الإنساني المعاصر في مجالات الأيديولوجيا والفلسفة والتحليل النفسي والرواية، نذكر منهم هيغل، وسارتر، وسيمون دو بوفوار، ولكن انصب اهتمامه الأكبر لترجمة 30 مؤلفاً من أعمال فرويد من الفرنسية إلى العربية، فكان له الفضل في ترجمة أعمال فرويد للعربية.
ومع بداية الأزمة السورية، أصيب، كما يقول في مقاله الأخير بـ(الشلل التام عن الكتابة)، وهي (محطة الألم السوري المتواصل الذي لا يبدو له بصيص أمل بالشفاء)، كما دوّن، مضيفاً: (أنا الذي لم أفعل شيئاً آخر في حياتي سوى أن أكتب هو بمثابة موت ولكنه يبقى على كل حال موتاً صغيراً على هامش ما قد يكونه الموت الكبير الذي هو موت الوطن).
يرحل طرابيشي، مثقلاً بالهمّ السوري، وصمته، تاركاً للعالم العربي إرثاً يتجاوز الحروب والتقاتل الأهلي ورحالة الدم، إرثاً حيوياً يكرس طرابيشي «علّامة» في البحث والترجمة والتأليف.. والأهم، «كاتب صامت» لا يبحث عن التصفيق.