كما لو كان الخبر مفتاحاً لثقب الذاكرة لا قفلها، حين استقبل السعوديون نبأ رحيل الدكتور عبدالرحمن الوابلي، هذا الاسم الذي اقترن ببهجتهم ومساءلة المختلف في ثقافتهم. حين استعاد خبر الرحيل ملفات مواجهاتهم الثقافية التي تمتد لنحو عقدين من العمل النخبوي الجماهيري معاً. عندما صاغ هذا المفكر المتفرد رؤى النخب في قوالب اجتماعية جماهيرية عامة، عبر المسلسلات الدرامية التي كان يكتبها ويمثلها نخبة من الفنانين في المملكة العربية السعودية.
يرحل عبدالرحمن الوابلي، المولود في مدينة بريدة، والحاصل على الدكتوراه في التاريخ من جامعة شمال تكساس الأمريكية؛ وبرحيله تخسر الأجيال السعودية مشعلاً من مشاعل التنوير المستنير الشجاع، وهو الذي ما فتئ يرحمه الله يقارع التيارات الظلامية التي تستهدف تخدير العقول والأجيال وصرفها عن مناطق الفن وإقطاعات الجمال. كان الوابلي وحيداً إلا من قلة مضت على عهد الصدق والنور والوفاء لأجيال ستحلق تالياً.
لم يكتفِ الوابلي المنير يرحمه الله، المحاضر بحقل التاريخ بكلية الملك خالد العسكرية، بنافذة الرؤية الشعبوية المتلفزة؛ بل أمضى السنين والأعوام وهو يكتب للعقول والأفكار والحريات والحقوق عبر زاويته الأسبوعية الشهيرة بصحيفة الوطن، فضلاً عن حضوره المميز، بعمق الطرح، وجرأة الفكر، ووضوح الرؤية؛ عبر العديد من الفعاليات والندوات الثقافية داخل الوطن وخارجه.
أصدقاء الوابلي، وهم ملء سمع السماوات الإلكترونية المفتوحة والفضاءات المتاحة من الأجيال والمجالات؛ أحالوا وسائط اتصالهم الاجتماعية ووسائط تواصلهم الشخصية إلى سراديب عزاء حقيقي بفقد اسم ثقافي وطني كبير بحجم الوابلي، ومن أبرزهم الدكتور عبدالله الغذامي، إذ قال: (كم من الحسنات يهدونها لك اليوم، ذهبت طاهراً وهم يلاحقونك بسوء الظن، كأني أسمعك تقول: عفا الله عني وعنهم، عليك رحمات ربك ورضاه).
أما الدكتور مرزوق بن تنباك، فيقول: (قمت هذا الصباح نشطاً لقضاء بعض الحاجات صدمني خبر وفاة عبدالرحمن الوابلي، عدت إلى الفندق حزيناً، لرحيل رجل يحب الحياة ويحب الناس، غفر الله له).
وقد عرف الوابلي رحمه الله بوطنيته التي لا جدال فيها يقول في إحدى مقالاته بعد بدء عاصفة الحزم:
(من الجميل أن تنام في بيتك الصغير أنت وعائلتك الصغيرة بأمن وسلام، ومن الأجمل كذلك أن تصحو من نومك وإذا ببيتك الكبير «الوطن» بطل يحمي نفسه وجيرانه بكل حزم وبطولة، ودون أي تردد. وهذا سر تعلق الناس بأوطانها، أن يكون الوطن بطلاً في حفظ أمنه من الداخل، وبطلاً وشجاعاً في حفظ أمنه من الخارج كذلك. وكما رددت على مسامعنا قياداتنا الحكيمة والشجاعة «وطن لا نحميه لا نستحق العيش فيه»؛ ها هي قيادتنا تطبق ذلك على أرض واقعنا وأمام أعيننا، وعيون العالم أجمع كما وعدتنا وتعهدت لنا بذلك. إذاً، فنحن -شعباً وقيادة- نستحق العيش في هذا الوطن، لأننا أثبتنا وبحق، أننا نستطيع الدفاع عنه وبكل جدارة من الداخل والخارج، بسواعد أسودنا البواسل وصقورنا الأصائل. ولذلك نستطيع أن نهنئ أنفسنا بوطننا الآمن الأمين).
ستمضي كلمات الدكتور عبدالرحمن الوابلي، ورؤاه وهمه وحلمه؛ في أوردة الأجيال الجديدة التي آمنت بصدقه وتطلعاته ووطنيته وتدينه السليم النزيه من آثام الوصاية على الناس وتوجيههم وتأطير حيواتهم.
رحمه الله وأضاء قبره مثلما أضاء عقول أجيال.