الثقافة والمثقف لفظان غائما المفهوم، شائكا الدلالة، واسعا النطاق يصعب أن ينضويا تحت تعريف بعينه أو أن يحدا بمصطلح دقيق نظراً لاعتبارين رئيسين:
أولهما حداثة المفهوم من حيث النشأة والتوظيف، ما يبرر ندرة التعريفات اللغوية التي نظفر بها من خلال المعاجم العربية على تنوعها وثرائها، وإن وجدت فتتسم في الغالب الأعم بالبساطة والسطحية.
المثقف هو كل شخص يمتلك خزيناً معرفياً مهماً ويحمل وعياً ثورياً (وليس شرطاً أن يكون قد حاز على درجة رفيعة من التعليم) يؤهله لمواجهة جملة من التحديات الأيديولوجية المهيمنة في المجتمع، واتخاذ مواقف حاسمة في أكثر القضايا حساسية فنراه يرفض الواقع وينزع أبداً إلى تعديله وتغييره جذرياً. ولا غرابة فالثقافة موقف نقدي ورسالة ينبغي تأديتها على الوجه الأكمل، وليست مجرد معارف متراكمة حتى ينالها الصدأ أو علوم مخزنة في المخابر. يقول إدوارد سعيد: «المثقف الحقيقي يمتلك دوره الفاعل في المجتمع، وهو دور لا يمكن اختزاله أو تصغيره لأن المثقف يجب أن يكون صاحب رسالة مطالباً بتجسيد مواقف فكرية وفلسفية من مختلف القضايا الوجودية والحيوية في المجتمع، وعليه ضمن هذا التصور أن يتخذ موقف المواجهة والمجابهة لكل سلطة تقليدية ولكل المسائل والقضايا الحرجة في المجتمع. ويرى جان بول سارتر أن «المثقف إنسان يتدخل ويدس أنفه فيما لا يعنيه».
فهل ينبغي على المثقف أن يكون دائماً في موقع المعارض المنتقد للسلطة الداعي إلى الإصلاح والتغيير حتى يرتقي إلى صورته النموذجية؟ أم أن عليه أن يلزم برجه العاجي فيكون مجرد شاهد على الحدث غير فاعل إيجابي فيه ولا متمرساً بقضاياه؟ وهل تنطبق حينها تسمية المثقف على صاحب الفكر النير الذي يدير ظهره لمجتمعه ويقتصر على التنظير دون الفعل؟
لا مناص من أن نعود بالذاكرة إلى الوراء كي يتسنى لنا الإجابة ولو نسبياً عن تلك الإشكاليات الجوهرية، فننبش في تاريخ الروائي الفرنسي إيميل زولا وقضية «دريفوس» وما ترتب عنها من صراع فكري وسياسي حاد بين الأنظمة السياسية التي أدانت هذا الضابط الفرنسي Alfred dreyfuse و وجهت له تهمة العمالة الأجنبية لفائدة ألمانيا، فتم نفيه إلى غوايانا بتاريخ 22 ديسمبر 1894 وبين رجال الفكر الذين رأوا في ذلك ظلماً وحيفاً. فكانت المبادرة لزولا الذي سجل انتفاضته على السياسة الدكتاتورية المتبعة آنذاك من خلال كتابة مقاله الشهير «إني أتهم» فكان مقالاً تحريضياً بالأساس ينتصر للمظلومين، عقبه تحرير بيان لنخبة من المثقفين الفرنسيين أطلقوا عليه اسم (بيان المثقفين) Le manifeste des intellectuels وقد شارك فيه كل من لوسيان هير، مرسيل بروست، أناتول فرانس... وقد نشرته جريدة لورور الفرنسية في 14 يناير 1898، وجوهره التنديد بالحكم الصادر عن المحكمة، وبعد أخذ ورد بين التيارات المتصارعة أعيدت المحاكمة ووقع التخفيض في الحكم إلى حدود 10 سنوات، ثم تمت تبرئة دريفوس وإخلاء سبيله من طرف محكمة النقض. وقد ساهمت هذه الحادثة في تبلور مفهوم «المثقف الوطني» أو «المثقف الناقد» الذي يسعى جهده للكشف عن الحقيقة والدفاع عن كل المستضعفين والمظلومين تكريساً لقيم الحق والخير والعدل. يقول تشومسكي: «إن من مسؤولية المثقفين أن يقولوا الحقيقة ويفضحوا الأكاذيب».
لكن السؤال المربك الذي يفرض نفسه علينا أمام تسارع الحدث السياسي في منطقتنا هذه الأيام وإلقائه بظلاله على مختلف الاتجاهات، هل يستطيع المثقف في عصرنا الراهن أداء رسالته النقدية الإصلاحية دونما ضغوطات؟ وهل سيكون عصياً على الاحتواء من قبل الحكومات أو محصناً ضد كل أشكال الجمود والتطرف والتأدلج ليقف على الضفة المقابلة للسلطة. أم إننا سنسجل حضوراً قوياً لصورة المثقف السلبي التي لا يكاد يخلو منها عصر من العصور وهي على ضربين؛ المثقف المكتفي بتقديم المعرفة دون الالتزام بالقضايا الحيوية في المجتمع والسياسة والثقافة. والمثقف الموالي للسلطة الذي يأتمر بأمرها ويرضخ لإرادتها.
وعموماً، فإن علاقة السياسي بالثقافي تطرح اليوم إشكالاً حقيقياً، باعتبار أن المحرك الأساسي لهذا المبحث يرتكز أساساً على إرادة الهيمنة والاستقطاب، فكل طرف ينحاز إلى شقه المفضل ولا تعوزه الحيلة في البرهنة على أفضلية هذا التيار وقوة فعله تاريخياً مقابل تقزيم نظيره، فالفضاء السياسي مثلاً يمنح نفسه امتياز صناعة التاريخ والتأثير فيه بشكل بارز متناسياً أن السياسي بالضرورة نتاج ثقافة عامة. فالثقافة هي الأم أو الحاضنة وما السياسي إلا تفرع عنها باعتبار أن التداعيات السياسية مبنية على خلفية ثقافية مجتمعية وليست نتاج فراغ أو هي محض صدفة. فهل يصح حينها اتجاه السياسي لإبراز ما يسميه بـ»طوباوية» تجليات المنتوج الثقافي عند مقارنتها بالانخراط الفعلي والواقعي الذي يمارسه الفاعل السياسي على أرض الواقع؟ وإلى أي مدى يمكن للمثقف عزل ذاته عن تداعيات الحدث السياسي الراهن؟ وهل الحدث الثقافي اليوم هو الحدث السياسي؟ ثم هل أصبح انصهار الثقافي في السياسي حتمياً؟