ما يحدث اليوم في المنطقة العربية ليس فعلاً سياسياً ولكنه فعل مادي، عسكري.
والفرق بين ما كان يحدث في الماضي وما يحدث الآن في الحاضر هو أن الفعل السياسي أو العسكري أو المادي في الماضي كان يحدث في معركة أو في حرب تستمر مدة وجيزة، وبعد ذلك تنتهي تلك الحرب لتبدأ مرحلة تالية من المفاوضات تنتهي بإبرام المعاهدات، أما اليوم فالعالم في حالة سخونة وهرولة دائمتين.
وإذا نظرنا إلى عالمنا العربي من مشرقه إلى مغربه، ندرك أننا نعيش منذ نحو ست سنوات في حالة توتر مستمر بعد هذه السلسلة من الثورات التي قُدمت إلى العالم تحت مسمى سابق التجهيز هو «الربيع العربي»؛ فالسلطة تتغير، والأوضاع لا تستقر فتعود من جديد لتتغير، والحروب تندلع ثم تستمر ثم تتوقف ثم تعود لتندلع من جديد في ظل واقع يرزح تحت الفوضى وعدم الاستقرار، وعلينا أن نتذكر حدثاً مشابهاً شهدته يوغسلافيا القديمة التي انتهت بتفكيكها إلى دويلات، وكلنا يعرف أن أمريكا هي التي حسمت الموقف النهائي في يوغسلافيا كما حسمت الموقف في العراق، لكنها للأسف لم تحرص على حسم بؤر الصراع الملتهبة في منطقتنا العربية في: ليبيا، وسوريا، والعراق، واليمن.
وهذا لابد وأن يلقي بظلاله على ما يحدث في واقعنا العربي اليوم، الذي لا يسمح لأحد من الأطراف المتناحرة أن ينتصر، كما لا يسمح لغيره أن ينهزم.. أليس هذا هو ما نلمسه في الواقع؟!
وبناء عليه فمن الطبيعي جداً أن ينشغل تفكير الإنسان العربي بهذه العبثية التي وجد نفسه محوراً لها بعد أن كان يعيش في أمن لا يدرك قيمته.
ولا نستطيع أن نقول إن هذا الوضع العبثي هو الذي جعل الثقافي يسير في ركاب السياسي بعد أن كان المثقف هو الذي يضيء الطريق لصانع القرار!
ومن يتصفح كتاب التاريخ يدرك أن الحياة الإنسانية، منذ أقدم العصور، كانت تمر دائماً بهذه الظروف؛ فالحروب كانت تندلع لأسباب إما فلسفية، أو عقدية دينية.
ونحن في العالم العربي، بكل أسف، تجاهلنا لسنوات طويلة، أو غيبنا التفكير في أخطر قضية وأعني بها الثورة الإيرانية، لأنها منذ قامت كان الظن أنها دفع بالعمل الإسلامي العام، فإذا بنا نكتشف أنها دفع مذهبي يحاول أن يحقق فقط طموح المتشددين الإيرانيين الذين يشعرون في قرارة أنفسهم بأنهم ضحايا، وبأنهم كانوا يأخذون دائماً بمبدأ «التقية» خشية مواجهة الكثرة السنية، فيتظاهرون بغير ما يبطنون!
وعندما نجحت الثورة الإيرانية بدأوا يجاهرون بما أبطنوه طويلاً من عداء سافر لأصحاب المذاهب الأخرى. ومن هنا بدأ التمدد، وبادرت إيران بمناوشاتها في منطقة الخليج، لكنها كانت تصب اهتمامها في الأساس على بلاد الشام، لأنها تريد أن تظهر للعالم أن لها سطوة على إسرائيل، وهكذا أصبح «حزب الله» في لبنان ذراعاً إيرانياً يهدد إسرائيل، وفي الوقت ذاته يقوي النظام الشيعي في سوريا، ويحقق حلم الإيرانيين بتكوين «الهلال الشيعي» الذي يضم: إيران، العراق، سوريا، لبنان.
والآن يتجه سعي إيران إلى تحقيق ما يعرف بـ»القمر الشيعي» الذي يدخل من اليمن ليجتازها إلى الجزيرة العربية فيلتقي مع «الهلال» عند نقطة التماس في شمال الجزيرة محققاً هذا الحلم الشيعي!
ولهذا السبب نحن في أزمة، فقد انتبهنا متأخرين وبدأنا ندرك الخطر بعد أن أصبح على الأبواب، فكان لابد من أن تشغل هذه القضية بال الإنسان العادي وليس المثقف فحسب، أو الدبلوماسي أو رجل السياسة الذي يهمه أن يؤمن حدود بلاده ويحقق استقرارها ويحميها من أي تعدٍ. وكلنا شهد كيف تحولت فئة من اليمنيين من أتباع عبدالملك الحوثي إلى استخدام خطاب سفسطائي عقيم يخدم توجهات إيران ويستولي على السلطة ويسعى إلى تحقيق حلم «القمر الشيعي» بعتاد إيران وأموالها، ويتمثل هذا في إطلاقهم للصواريخ الإيرانية التي وصلت إلى جنوب مكة أو شمال جدة، وهذا أمر خطير لأنه يوقظ الفتنة بين الشعب اليمني، وهو شعب عربي أصيل، والشعب السعودي، وهو شعب عربي أصيل أيضاً.
وبالضرورة علينا أن نتساءل: كيف لا تشغل هذه المؤامرة كل إنسان في عالمنا العربي من المحيط إلى الخليج؟!
أليس ما يحدث اليوم سيؤثر بالتأكيد على مستقبلنا جميعاً في ظل واقعنا الجغرافي الذي تجاور فيه اليمن السعودية، وتجاور العراق سوريا، وتجاور سوريا لبنان، وقانون التداعي يقول إن سقوط دولة سيؤدي بالضرورة إلى سقوط بقية الأنظمة المتاخمة لها؟
والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو: ما دور الكاتب سواء كان صاحب فكر أو صاحب رؤية اجتماعية، أو صاحب رؤية فنية، في التعامل مع هذا الواقع الملتهب والملتبس في الوقت ذاته؟
ومع شديد الأسف يجب أن نعترف بأن الإعلام العربي، في أغلبه، لا يتعامل إلا مع من «يدندنون» على نفس اللحن، ولا يسمح مطلقاً بطرح أية آراء ابتكارية لتصل إلى الناس.
وأتصور أنه يتحتم على الإعلام في الوقت الراهن أن يؤسس لواقع جديد يؤمن مستقبلاً أفضل للمنطقة العربية كلها يقوم على إدراك أهمية مقولة «لكم دينكم ولي دين».. أو لكم مذهبكم ولي مذهب ليعيش كل إنسان في حدود مذهبه دون أن يحاول النيل من الآخر، وأن يكون هناك قبول عام لفكرة المجتمع الكبير المتسامح الذي يؤمن بفكرة أن كلنا مواطنون لنا الحقوق ذاتها وعلينا نفس الواجبات، وإذا حدث ذلك فإن العالم العربي ستختلف صورته خلال عشر سنوات، وإذا لم يحدث هذا فإننا سنظل نخرج من حرب لندخل في أخرى ليستحوذ الغرب على خيراتنا بالمجان، وعندئذ يستطيع القلم أن يدعو إلى الهدوء والسلام، وينشغل الناس بغير الحديث في السياسة إلى أحاديث البناء والتقدم والتحضر.
للتذكير فقط أود أن أقول إن «الإلياذة» اليونانية لهوميروس هي ملحمة حرب، و»الإنياذة» اللاتينية لفرجيل هي أيضاً ملحمة حرب، وفي عصور انخفاض وتيرة الحرب يظهر الشعر الإنساني، سواء أكان عاطفياً أو اجتماعياً، وقديماً كان يُطلق على الشعر العربي «أيام العرب»؛ لأن كل ما كان يحدث بين القبائل من حروب وغزوات وخلافات يعبر عنه بالشعر، وفي زمن الفتنة الكبرى بين الأمويين والخوارج وغيرهم تحولت ساحة الإبداع العربي إلى مسرح سياسي، فكان هناك شعراء الشيعة، وشعراء الخوارج، وشعراء بني أمية، وكان لكل منهم لسان سليط على غيره إلى حد أن كفروا بعضهم بعضاً، وهذا ما تزخر به كتب تاريخ الأدب، وبعد انتهاء الدولة الأموية جاء العباسيون ومعهم أدبهم الذي كان جزءاً كبيراً منه يدور حول الحروب، ولعلنا نذكر أن أعظم قصائد المتنبي قالها في مدح سيف الدولة بعد انتصاره على أعدائه، وكذلك قصائد علي بن الجهم، التي امتدح فيها الرشيد لانتصاره على أعدائه، فلا يمكن أن نقول إن تناول الفن لأحداث السياسة أمر جديد علينا، فهو دائماً موجود في الأدب العربي، بل في الأدب العالمي أيضاً، ولكن عندما تخبو المعارك يعود الإبداع إلى طبيعته الإنسانية. ومشكلة العصر الذي نعيش فيه الآن تكمن في أن أحداثه متسارعة وهذا انعكس بالفعل على ما نقرأه من إبداعات تغلب عليها وطأة السياسة وأنين الواقع.