لا بد من الإشارة بادئ ذي بدء إلى ما تنطوي عليه كلمتا السياسة والثقافة العربيتان من معان تجعلهما عرضة لاستخدام يعتمد المراوغة أكثر من الوضوح. أولاً بفعل اشتقاقهما واختلاف جذريهما اختلافاً شديداً عن جذر كلٍّ من هاتين الكلمتين ودلالاته في اللغات الأوروبية، أي اختلاف أساس المعنى الذي ستبنى عليه دلالة كل منهما، وثانياً بسبب تعدد المعاني التي يُراد من كل منهما الدلالة عليها. وربما كان أكثر المعاني شيوعاً لدى قطاع واسع من مجتمعاتنا العربية هو ذلك الذي لا يزال يراوح ضمن الفضاء الدلالي لجذر كلٍّ من الكلمتين: «ساسَ»، و»ثقف»، مما يؤدي بمن يعتمده في واقع النظر والممارسة إلى أن يجعل من كل منهما عالماً يبدو مستقلاً بذاته ولذاته، له همومه وقوانينه وآلياته التي تختلف اختلافاً جذرياً عن العالم الآخر.
وربما لهذا كان السؤال الذي يطرح غالباً حول طغيان السياسة على الثقافة الصادر عن هذا المعنى الأخير الشائع يبدو بالتالي طبيعياً بل وشبه تحصيل حاصل. إذ لا يتم الحديث في فضاء هذا الفهم عن تأثير الثقافة على السياسة بما يجعل هذه الأخيرةــ بالمفهوم الشائع على الأقل ــ أكثر نبلاً؛ وإن حدث وجرى الحديث على هذا النحو فلهدف الحط من شأن السياسة التي «تلوثت بالثقافة»!
ولكن، إن كان السؤال يبدو طبيعياً فعلاً فهل يمكن الاكتفاء به لتغطية الواقع العربي؟ وبعبارة أخرى، إلى أي حدٍّ لا زلنا نفهم ونعيش السياسة والثقافة وفق معنى جذريهما؟ وهل من الممكن تجاوز أو تجاهل ما اكتسبته هاتان الكلمتان بوصفهما مفهوميْن من معان جديدة بحكم عمليات التثاقف والتفاعل مع الثقافات الأخرى التي فرضتها قواعد العيش في عالمنا «المُعَوْلَم» اليوم؟
لاشك أن الانطلاق من اعتبار الثقافة والسياسة عالميْن منفصليْن ومختلفين لابد أن يؤدي بالضرورة إلى التساؤل لا عن طغيان أحدهما على الآخر بلا تمييز بل بطغيان السياسة على الثقافة تحديداً كما لو أن ثمة ما يشبه حكم قيمة يضع السياسة في منزلة أدنى من منزلة الثقافة. هنا يُنْظَرُ إلى تأثير السياسة على الثقافة نظرة تذمّر بما أنه يؤدي إلى حَرْفِ هذه الأخيرة عن مهماتها الأساس ضمن مفهومها الرومانتيكي «في الخير والحق والجمال». لكنها تبقى نظرة من جانب العاملين ضمن هذا الفهم للثقافة في حقولها المختلفة. إذ لو حدث أن طغت الثقافة على السياسة ـ وهو أمر نادر الحدوث في حياتنا العربية وينحصر غالباً في ممارسة مثقف ما للعمل السياسي ـ إذن ينظر أولو السياسة للأمر بكثير من الاستخفاف أو الاستهجان، لا لأن السياسة أرقى من الثقافة في نظرهم بل لأن المثقف لا يملك بحكم تكوينه الفكري الأدوات اللازمة التي يملكها السياسي لممارسة عمله. وبقدر ما تبدو ـ ضمن هذا الفهم ـ آثار السياسة على الثقافة عامة ما دامت تمسّ ضروب الإنتاج الثقافي بمختلف أجناسه وصوره، بقدر ما تبدو آثار الثقافة على السياسة فردية وأقرب إلى أن تكون غير مرئية في فضاء الأخيرة الواسع. على أن انطلاقنا من مفهوم آخر للثقافة وللسياسة سيؤدي بنا إلى نتيجة أخرى مختلفة جذرياً عن السابقة. فمفهوم الثقافة يعني في أبسط صياغة له مجموع الممارسات والمعارف والتقاليد والمعايير الخاصة بشعب ما، ومفهوم السياسة الآخر هو الذي يعتمد أصل معناها الأول في الثقافة اليونانية والذي نحتت من عنصريه «المدينة polis» و»علم techné» كلمة «السياسة Politique» في اللغات الغربية، ويعني علم حكم المدينة. وهذان المفهومان باتا اليوم معتمديْن فكراً وممارسة في الحياة العربية اليوم وإن بدرجات متفاوتة من الاختلاف عن فهمهما في الفكر والممارسة في الحياة الغربية. ويكفي مقارنة هذين التعريفين كي نلحظ عبر هذا المعنى العام أن السياسة ليست إلا جزءاً لا يتجزأ من الثقافة. أي، بعبارة أخرى، السياسة جزءٌ من الكلِّ الذي هو الثقافة.
بهذا الفهم للسياسة جزءاً من الثقافة لن يدهش أحدٌ من طغيان السياسة على المبدعات الثقافية، في فترات تاريخية محددة. ودون الذهاب كما يفعل البعض إلى اعتبار أن كل فعل أو نتاج ثقافي ينطوي على بعد سياسي، وهو اعتبار لا يخلو من الصحة، تكفي العودة إلى عدد من الحقب التاريخية المختلفة التي سنجد فيها بعض مبدعاتها الأدبية أو الفنية التي لا يمكن فهمها وتفسيرها دون فهم الظرف السياسي الذي كتبت فيه أو تحت تأثيره أو استجابة لمعانيه. فاللوحة التي رسمها الفنان الإسباني بابلو بيكاسو عام 1937 وحملت اسم مدينة «غيرنيكا» في منطقة الباسك على إثر قصف هذه المدينة أثناء الحرب الأهلية الإسبانية من قبل الطيران النازي الألماني، هي ليست مجرد عمل فني فذٍّ واستثنائي بل هو أيضاً وبالقدر نفسه عمل سياسي بامتياز. كثيرة هي الأعمال الأدبية التي يمكن الإشارة إليها بوصفها أعمالاً أدبية سياسية بامتياز أو يطغى فيها البعد السياسي. ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر كتب أحد كبار الروائيين الفرنسيين، ستندال، روايته الشهيرة: «الأحمر والأسود»، التي لا يمكن فهمها دون العودة إلى الظروف السياسية التي سادت بعد الثورة الفرنسية وإلى ما بعد الحقبة النابوليونية والتي فرضت الخيار الوحيد أمام أجيال متتابعة من أجل الصعود الاجتماعي: الجيش أو الكهنوت، الأحمر أو الأسود؛ أو في النصف الأول من القرن العشرين رواية «الوضع البشري» لأندريه مالرو التي تدور ثيمتها حول الثورة الشيوعية في الصين خلال الربع الأول من القرن الماضي؛ أو مسرحية جان بول سارتر «الأيدي القذرة» التي كتبها عام 1948 والتي تستعيد ثيمتها المقاومة ضد النازية.
وبوسعنا التدليل أيضاً على أن كثرة من الأعمال الأدبية التي لا يمكن من الوهلة الأولى العثور فيها على أي ثيمة سياسية مباشرة أو غير مباشرة، بل والتي لن يشك أحد في انطوائها على السياسة فعلاً وممارسة تتواجد أيضاً في تراثنا العربي. فمن يمكنه أن يظن لحظة واحدة وهو يقرأ مثلاً كتاب ابن حزم الأندلسي الشهير عن الحب، «طوق الحمامة في الألفة والآلاف»، على أنه كتاب سياسي بامتياز؟ تلك هي في الحقيقة وعلى سبيل المثال القراءة السياسية التي قام بها مؤرخ فرنسي معاصر، غابرييل مارتينيز غرو، لكتاب ابن حزم هذا في كتابه «الهوية الأندلسية»، والتي يخلص فيها إلى أن طوق الحمامة تعبيرٌ عن خلاصة أفكار مؤلفه حول الحرب الأهلية التي اجتاحت مدن الأندلس وكذلك دفاع عن الأمويين وسط الكارثة التي كانوا يتعرضون لها خلال هذه الحرب.
تبرهن مثل هذه القراءة لعمل أدبي محض في ظاهره أن من المستحيل على المثقف كاتباً أو فيلسوفاً أن يعزل نفسه عن الشروط التي يعيشها مجتمعه لا في الأوضاع الاستثنائية كالحروب مثلاً فحسب بل في كل الظروف. وأن مبدعاته الفنية أو الأدبية لابد أن تشي بهذا الانخراط بصورة أو بأخرى، تساعده على ذلك كل الإمكانات التي تتيحها أدوات الفن الذي يمارسه فضلاً بطبيعة الحال عن قدراته ومواهبه.
على هذا النحو نرى أن السياسة، بخلاف النظرة التقليدية، تتجلى أمامنا بالفعل جزءاً لا يتجزأ من الثقافة وليست عالماً منفصلاً عنها.