مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

بأي معنى يراهن الثقافي على الحرية؟

السياسة مهما طغت وعلا صوتها، لا يمكن أن تنسخ تأثير الأدب أو الفن عامة، وبميسور الأدب سواء استفاضت الحضارة، أو استحكمت الفوضى؛ أن يرد علينا إيماننا بأنفسنا وبالحياة، كلما عرض لنا ما يعرض للناس من ريب وضعف، بل يمكن أن يصوغ ذواتنا ويشكل سلوكنا وأخلاقنا. وهذا مما أدركته أمم غير قليلة في الغرب. وكان العرب، في فترات من تاريخهم، في شرق البلاد العربية أو غربها (بلاد المغرب والأندلس) يأخذون به.
ندرك جميعاً أن سياسة الدولة شيء، وسياسة الثقافة شيء آخر، وأنهما نادراً ما يلتقيان.
يتعلق الثقافي أو ينبغي له بالفعل الاستشرافي، وأساسه تهيئة الحاضر -أو (الحال) كما كان يسميه أسلافنا- للمستقبل. والأمر ليس تنبؤاً - كما قد يقع في الظن للوهلة الأولى، ربما هو مسعى أو سيرورة أو طريقة ما في إعداد مختلف الإمكانات القابلة للتحقق. ولهذا يفترض في الثقافي أن ينهض على إحكامات وتراتيب وإصلاحات تجري في الزمن على نحو ما تجري مختلف مفارقات الوجود البشري.
وثمة موقفان ومقاربتان، كلما تعلق الأمر بالاستشراف الثقافي، هما:
- موقف محكوم بسيناريوهات أو احتمالات.
- موقف أساسه الحدس أو المعرفة الحدسية.
ولعل في هذين الموقفين ما يؤكد أن الثقافة الحية رؤية مستقبلية أو مشروع نبدأ في تحقيقه في الحاضر، أو هي تمثل للعالم القدرة على السياحة في المستقبل المتعدد،لاختبار ما يمكن أن نفعله: هنا/الآن.
إن البعيد زماناً يخدم القريب زماناً، ويمنحه أفقاً، ويضفي عليه معنى. وكل فعالية مستقبلية تعني أن المستقبل هو صنيعنا نحن البشر مثلما هو صانعنا.
على أن حضور السياسي اليوم، قد يرجع في جانب منه إلى غياب المثقف أو انسحابه شبه التام من المشهد الثقافي بل السياسي بالمعنى الواسع والعميق للكلمة، فسمة تكاد تكون ملازمة لأكثر مجتمعاتنا العربية؛ وكأن هذا المشهد في غنى عن نظر المثقف ورأيه، أو هو لا يستحق التفاتة منه، برغم أننا نقف جميعاً على تخومه، ونرى من حافته الهوة الفاغرة التي تنتظرنا والتي يمكن أن تنغلق علينا في لحظة ما؛ وبخاصة في هذا المنعرج التاريخي الحاسم الذي يكاد يكون صورة من سايس بيكو جديدة، أو محاولة في «فلسطنة» البلاد العربية. كان البعض يتذرع بأن هامش الحرية المتاح في سائر البلاد العربية، يضيق بالرأي والرأي المخالف أو المختلف. وقد يذهب في تسويغ انسحابه، إلى أن أساس الداء إنما هو القمع والاستبداد والتخلف، وما إلى ذلك مما اعتدنا قراءته أو سماعه كلما تعلق الأمر بموضوع كالذي نحن فيه. والحق أن في هذا الرأي مقداراً من الصواب لا يخفى، ولكن المسألة الثقافية أعمق من أن تختزل في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو في «السياسي» بالمعنى الضيق للكلمة فهذه أمور لها منابرها وفضاءاتها.
إن الحوار بين الثقافي والسياسي لا يكون ناجعاً، إلا إذا جرى في اتجاهين مترابطين: حوار المثقف الحر مع السلطة أي مع السياسي، خدمة لمصلحة المجتمع، وقبول السلطة لهذا الحوار، ما دام يجري في أطُرٍ قانونية.
ربما ليس لنا أن ننتظر أن تتحقق هذه المعادلة «الصعبة»، في ظرف زماني قياسي. وهي التي كانت في أوروبا حصيلة تراكم حضاري إنساني واجتماعي وثقافي واقتصادي، وأوروبا حققت قفزتها المعرفية النوعية دون أن يكون هناك ما يعوق نهضتها من أشكال الاستعمار أو التدخل الأجنبي. بل لقد تحولت هي نفسها أو بعضها إلى دول استعمارية قامعة بعد أن اتخذت من «الآخر» موضوعاً لتصورها، ولذلك فإن موقف المثقف الليبرالي الذي يدعو إلى تبني النموذج الغربي، كثيراً ما يكون محكوماً بالحذف والاختزال والتضخيم؛ إذ هو يسكت عادة عن الجانب الاستعماري في هذا النموذج؛ لأن استحضاره من شأنه أن يفضح ما هو مُبعد مقموع في خطابه، أو هو يغفل الأسباب التي أفضت إلى فشل بعض دولنا، في حماية استقلالها، ونقل شعبها لا إلى مجتمع الوفرة أو الرخاء فحسب، وإنما إلى مناخ من الديمقراطية والحرية هو الأقدر وحده على صيانة هذا الاستقلال، وما تحقق من إنجازات ومكاسب. وكلنا يدرك أن الطابع الغالب على ما نسميه مجازاً «روح العصر» هو البعد الثقافي. وليس أدل على ذلك من تغليب قيمة الاستعمال على قيمة التبادل، بما يمنح القرار الاقتصادي نفسه والقرار المجتمعي بشكل عام، مرجعيته الثقافية. وهو ما يقتضي تطوير المفاهيم الثقافية، بحيث نتجنب النظرة «الثقافوية» المبتورة التي تؤدي عادة إلى تقسيم المدينة الواحدة إلى مدينتين والبلاد الواحدة إلى بلادين: واحدة مندمجة بشكل فاعل في العمل الثقافي الحضاري أو تكاد، وأخرى من الأطراف المهمشة التي لا تنتج إلا ثقافة الرصيف.
والإنسان هنا إنما هو المثقف قبل السياسي، ومسؤوليته تعني من ضمن ما تعني المشاركة الوطنية في الثقافة أي معرفة عمق تاريخنا وأرضنا والأخذ بأسباب العالمية من باب المواطنة اللغوية والثقافية المنفتحة. ونحن إنما نقصر في حق وطننا؛ إذا قلنا إنه وطننا فحسب، فهذا تعبير غائم. والوطن، هو بالأحرى حظنا ونصيبنا أيضاً.
على أن الثقافي بالمعنى الوطني أو المحلي، لا يعارض «الكوني». و»الكونية» تقف على طرف النقيض، من مقولة «العولمة». وهي أفق محمود يجدر بنا نحنُ العرب أن ننخرط فيه. فالكونية قيمة إنسانية تتناسب وثراء الوجود الإنساني أو غناه؛ لأنها لا تلغي الاختلاف والتعدد؛ بل تسعى إلى إدماجهما في سياق من التناغم؛ فيما العولمة، على نحو ما يصرفها أهل السياسة وتقنيو الاقتصاد العالمي تقوم على المجانسة والتنميط، ومحو تاريخ طويل صرفت فيه الشعوب حياتها، وأفنت مصائرها من أجل إغناء تنوعها وتطوير اختلافها، وخلافها أيضاً. وهو ما ينبغي التصدي له، ولكن ليس ضمن فضاء العولمة بل ضمن فضاء الكونية الذي لا يحول الاختلاف إلى خلاف وإنما يجعله شرط إمكان الحوار.
وباختصار -مخل لا ريب- فإن الكونية أفق وجود، والعالمية استيطان مقنع في أرض الآخر.
ولكن ما يعنينا في السياق العربي المستجد أن هناك ثنائيات تتحكم فينا، مثل الثنائية القانونية حيث المواطن هو في الوقت نفسه مشرع وموضوع تشريع، والثنائية السياسية حيث المواطنة تكون في ذات الآن مبدأ وممارسات، والثنائية التاريخية حيث المواطنة مؤسسة وصيرورة، والثنائية الجيو-مؤساساتية حيث المواطنة تتطور على الصعيدين المحلي والكوني، والثنائية المؤسسة أو المنشئة لفكرة المواطنة. فهذه كلها جديرة أن تؤخذ بالاعتبار. ولعل رهاننا في عالم اليوم إنما يتعلق بإعادة تعريف هذه المواطنة» الجديدة».
هل من تعارض بين السياسي والثقافي؟ كثيراً ما نقرأ هنا أو هناك أن التعارض بين السياسة والأخلاق، وبين السياسة والثقافة؛ قائم في أكثر من مستوى. وهو على ما يبدو تعارض شائخ كاذب طال أكثر من اللازم وإن كان له ما يبرره أو يسوغه. فقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين خاصة من التغيرات والانقلابات في حقول العلم والمعرفة وفي الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية، ما جعل الفجوة بين السلوك وأنساق القيم تتسع، وتعبر تعبيراً صريحاً أو مضمراً عن شك عميق في فاعلية القيم المتوارثة وفي جدواها. وذلك بدءاً بنهاية عصور الاستعمار القديم، فسقوط المعسكر الشرقي وحلول مرحلة جديدة من الإمبريالية أو الكولونيالية، وارتفاع الأصوات المنادية بالحرية والديمقراطية، وسيادة التفكير العلمي العقلاني الذي لا يعارض الدين وإنما يفسره، ويصله بسياقه التاريخي حيث نشأ ودرج. وفي مجتمعاتنا نحن لا يزال للدين مكانته، ومن حق الفرد أن يجد فيه ملاذاً روحياً، أو معنى لحياته. وهذا وغيره مما لا يتسع المجال لذكره، إنما يذكي الحاجة إلى قيام نسق من القيم الجديدة، حتى لا تكون «نهاية التاريخ» المزعومة نهاية الثقافة، على نحو ما نرى في خضم هذه الحروب التي تُشن هنا أو هناك، بذرائع مختلفة، وانكشاف أكاذيب صناع القرار في الغرب.
إن الثقافة على ما يُفترض، مُدمجة في العادات والأعراف والتقاليد. وهي بمثابة «مستودع» تستمد منه السياسة أفكارها. من ذلك أن العدالة والمساواة والحرية والإخاء كلها قيم أخلاقية تزرعها فينا الثقافة، ولكن يُفترض فيها، عندما تنتقل إلى السياسة، أن تتحول إلى قوانين ملزِمة.
ورهان الثقافي إنما هو على التحرر من كل ما يعوق تقدمنا نحو الأفضل، وهذا أمر يكاد يرتقي إلى مستوى البداهة باعتبار الثقافة الحية تحمل هذا الرهان شعاراً ملازماً لها. لكن يتعين قبل اختبار هذا الرهان أن ننبه إلى الفضاء المرجعي الذي تتنزل ضمنه هذه المسألة. وهو فضاء متعدد المستويات وغير ثابت بالضرورة نظراً إلى كوننا نستطيع ضمنه أن نستند إلى بعض تمفصلات تاريخ المعرفة. ونظراً إلى كوننا نستطيع ضمنه أن نقفز على بعض هذه التمفصلات، وأن نستنطق مباشرة العلاقة بين مقولتي «االسياسي» و»الثقافي». ولكن مهما يكن من أمر مرجعيات هذه المسألة فلا غنى، في تقديرنا، عن الانطلاق من هذا السؤال: بأي معنى يراهن الثقافي على الحرية؟ وهو سؤال يفضي بدوره إلى مساءلة بعض النظريات المعرفية عما إذا كانت غاية الحرية فيها معقودة على ما هو نظري أم على ما هو عملي. وبهذا المعنى يمكن أن نتساءل أيضاً: ما هي منزلة الحرية من الفكر إجمالاً؟ وقبل ذلك: ما هو الوضع الذي يُفترض أن الثقافي يتحرر أو يحررنا منه؟
إن مقاربة كهذه لا بد أن تكون منذ البداية، معقودة على وضع إشكالي، نظراً إلى كون هذه المفاهيم تشكل على الفكر إذا رام تحديدها بدقة.
هل يستوفي الخطاب السياسي -وهو المهيمن اليوم في العالم الإسلامي والعربي خاصة- مسار التحرر إذ يتوسل بمناهج تراوح بين النقد والشك والتأسيس لبدائل معرفية؟ أليس هذا الخطاب، حتى وهو يراجع مضامينه نقدياً؛ خطاباً مغرقاً في التنظير بحيث تكون الحرية المنشودة لديه حرية مفارقة للواقع؟
إن ما يدعو إلى مثل هذا التساؤل هو الإحراج الذي نصادفه عندما نراجع بعض المقاربات الفكرية أو السياسية التي تعتبر الحركات الدينية السياسية قد أوغلت في التعالي وشطت حتى أنها نسيت الأفق الواقعي للإنسان. ذلك أن عنايتها بالإنسان لا تتجاوز تمثله في صورة مجردة تعكس في الأصل ما تطمح إليه هذه الميتافيزيقا الدينية؛ وليست الصورة الفعلية للإنسان. فهي إذن واهمة في ما يخص رهان التحرر لديها ما دامت تتغافل عن مقومات أساسية لوجود الإنسان ذات أبعاد واقعية أو مادية أو فيزيائية حاملة لقيم تسهم في تشكيل ملامح الإنسان، منها على سبيل التمثيل فقط الحضور الجسدي للإنسان وما يشتمل عليه من انفعالات حيوية وإرادة مباشرة للحياة، فإذا بتحرير العقل (بمعنى اليقين) على حساب الجسد دليل على اغتراب الوعي؛ على نحو ما نرى في التنكيل البشع بالجسم البشري، عند طوائف تسيس الدين، وتفسره حسب أهوائها. وأقدر أن من مهام الثقافي أن يعمل على تبديد كل الأوهام التي تشطر الإنسان إلى نفس وجسد وتحبسه في ثنائية متفاضلة. وعلى هذا الأساس فلا بد لفعل التحرر أن ينقلب أولاً ضد السياسة نفسها بما أنها لم تفعل غير نسيان الحقائق وتزييفها، وهي لا تتوانى عن تسمية أوهامها حقائق. على أن مثل هذا الموقف ينبهنا إلى كون رهان التحرر يسقط في الوهم عندما يتبع رهاناً أحادي الاتجاه.
وهناك مسار يتعين على الثقافي أن يقطعه باتجاه التحرر، ألا وهو مسار الوفاق بين الفكر والواقع؛ وليس بالضرورة أن يتم ذلك على نحو تبريري على نحو ما نجد عادة عند كثير من الأصوليين، وإنما يمكن أن يتم ذلك على نحو جدلي. فبأي معنى يمكن أن يراهن الثقافي على الحرية ضمن هذا الأفق الديالكتيكي؟
قد لا يتسنى لنا أن نجترح إجابة مناسبة لهذا السؤال ما لم ننتبه إلى كون مراهنة الوعي على التحرر إنما هي مراهنة محكومة بمنطق التطور التاريخي، أي أنه لا يجوز للوعي أن يقفز على متطلبات الواقع، بل يتعين عليه أن يستغرق فيها استغراقاً يجعله يحيط بقوانين الواقع وحيثياته. ولا أحد بميسوره أن يعرف ما تستطيع الحرية أن تفعل، ولا أن يتخيل ما قد تؤول إليه العادات والعلائق البشرية في حضارة لا يراودها هاجس التنافس والضرورة. و نقدر أنه تبعاً لذلك فإن وعياً لا يتفطن إلى حركة الواقع الجدلية بما هي حركة تاريخية نوعية؛ قد يقع في ظنه أو وهمه مباشرة؛ أنه يمكن الظفر بالحرية في كُليتها، والحال أن التطور التاريخي يجعل العلاقة بين الوعي والتحرر علاقة تتقدم هي أيضاً في تناسب جدلي.
كيف نوفق في المراهنة على الحرية المستندة إلى ضرب من العلاقة بين الوعي والممارسة، بل إلى تحويل الوعي نفسه إلى مراس؛ حيث التحرر صراع ضد الأوهام والأخطاء والظنون، وتجذير لإرادة الحياة وانخراط في الواقع المعيش ومساهمة في الحركة الحضارية.
وبتعبير آخر: فإن عقلاً لا يحرر نفسه من أوهامه عن ذاته لا يكون حراً، وما أكثر أوهامنا عن ذواتنا! وهل لذلك من معنى سوى أن انفتاح العقل على التجربة هو الذي يحرره من أوهام كبريائه.

ذو صلة