هل تجرع سقراط كأس السم بسبب الفلسفة أم السياسة؟ وهل فقد عبدالله بن المقفع رأسه بسبب السياسة أم الفكر السياسي؟ وهل كان يمكن للمتنبي أن ينتج شعره العبقري مدحاً وذماً، ثم يموت بسببه بعد ذلك؛ لو لم يكن مرتبطاً بالسياسة والساسة؟ وهل كان يمكن لحركة الترجمة أن تزدهر لو لم يوجد المأمون الذي يمنح المترجم مثل وزن كتابه ذهباً؟ وهل تشرد جمال الدين الأفغاني و(توم بين) الفرنسي في البلاد بسبب الفكر أم السياسة؟ وهل نفي الإمام محمد عبده وحورب بسبب رغبته في تجديد الخطاب الديني بلغة عصرنا أم بسبب السياسة التي قال عنها: «لعن الله ساس وسائس ويسوس»؟ هل قضى بعض الأدباء والصحافيين والمفكرين المصريين نصف أعمارهم أو أكثر في السجون؛ وقضى زملاؤهم كل حياتهم في القصور، بسبب الفكر والأدب والصحافة أم السياسة؟ وأين الاقتصاد من هذا كله؟
ربما يصعب فض الاشتباك بين الثقافة والسياسة، وبين المثقف والسياسي، فالمثقف يريد أن يكون له دور سياسي بشكل ما ليطبق أفكاره في واقع الحياة والناس، والسياسي يريد أن يكون صاحب فكر أو نظرية مهما تكن طبيعتها، وما يجعل الأمر أكثر صعوبة هو البنية الاقتصادية التي تتحكم في هذا كله، فالاقتصاد غير بريء مما يجري في عالم السياسة والثقافة والفن والعلم، بل حتى الموضة. وتزداد الصعوبة إلى درجة الاستحالة تقريباً إن حاولنا أن نفعل ذلك في عصرنا الحاضر، فربما كانت العصور السابقة أكثر بساطة، واضح من هو السياسي، ومن هو المفكر، وموازين القوى الاقتصادية في المجتمع، وبالتالي يسهل تحديد انحيازات كل منهم والتعاطي معها إيجاباً أو سلباً، موافقة أو رفضاً. لكن في عصرنا الحاضر أصبحت الأمور أكثر تشابكاً واختلاطاً، وأصبح فيض المعلومات المتاحة لا يوازيه إلا فيض الكذب الواضح والصريح والمقنع والمتخفي، مما يجعل المعرفة اليقينية أقل مما يتصور معظمنا، ففي الوقت الذي يظن فيه كل فرد الآن أنه قادر على الوصول للمعلومة، ومن ثم يمتلك المعرفة، وبالتالي هو حر في تكوين الآراء التي تخصه، ولديه من الوسائل ما يجعله يعبر عن هذه الآراء، بداية من إمكاناته الذاتية وقدرته على التعبير وصولاً إلى الوسائل التي تتيحها تكونولوجيا الاتصالات؛ هذا الشخص ذاته لا يفطن (كما يوضح كتاب المتلاعبون بالعقول مثلاً) أن هناك مؤسسات إعلامية وعلمية ومراكز أبحاث ضخمة تعمل في إنتاج المعلومة، ثم ترويجها بشكل محدد، ثم زرعها في العقول، وذلك لتحديد أهداف ترعاها أجهزة معينة تعمل في خدمة قلة ممن يمسكون بأيديهم خيوط لعبتي السياسة والاقتصاد، فتخترع موضات في الثقافة والفن والأزياء.. إلخ؛.
ربما كان الأمر في الماضي مع ذلك أكثر بساطة، إذ كانت هناك نخبة تحرك الجماهير، وهذه النخبة يمكن تتبع انتماءاتها بوضوح، ويمكن تحديد انحيازاتها الصادقة والمزيفة، ومناوراتها المختلفة؛ لكن الوضع الآن يختلف، ذابت النخبة تقريباً، لم تعد لها تلك الهيبة، ولم تعد تمتلك تلك القدرة على إدارة وتوجيه الجماهير، أصبحت الجماهير هي التي تحرك النخبة وتوجهها. الجماهير، ذلك الكائن الخرافي غير محدد المعالم والمتقلب المزاج، هو الذي يشعل الثورات بأزرار ولوحة مفاتيح.
قد تبدو الفقرة السابقة متناقضة في جوهرها مع سابقتها، وهو ما يوضح أن المراقب لهذه العلاقة شديدة التشابك والتعقيد بين الثقافة والسياسة؛ لا يسهل عليه وصفها إلا باستخدام الكلمة أو الفكرة، وضدها أحياناً؛ ليستطيع توضيح فكرته.
لكن هذا ما يحدث بالفعل الآن، الرأي العام يتكون على الشاشات شديدة الصغر (اللاب توب والموبايل)، ومن ثم يقود اتجاه الإعلام، والذي بدوره يؤثر في زيادة انتشار هذا الرأي العام وتوكيده، حتى وإن عارضه أحياناً لصالح جماعات سياسية أو اقتصادية معينة، لكن ما تريده الجماهير هو غالباً ما يتحقق في النهاية، أو هو ما يظل معلقاً كسيف على رقبة من يقفون في طريق تحقيقه. لكن من وما الذي بدأ تكوين هذا الرأي العام عبر الشاشات الصغيرة؟ هل يعرف أحد مَن أول من بدأ حملة معينة؟ وكيف اتخذت مسارات عنقودية لتصبح هذا الرأي العام الجارف؟ ومن الذي أوحى لهذا البادئ بالتعليق؟ وكيف يتم توجيه التعليقات في عالم يبادر بالتعليق وإبداء الرأي والإعجاب من قبل أن يقرأ وأحياناً من دون أن يقرأ؟ إنها تلك القوى الخفية التي ترسم وتعيد رسم خرائط العالم السياسية والاقتصادية والجغرافية والثقافية عبر (الميديا) والحروب والشائعات والثورات التي يمكن أن تكون لها أسباب عميقة، لكنها تنتظر من يفجرها، أو التي يمكن أن تنفجر لكنها لا تجد من يوجهها، أو التي تجد من يوجهها لكنها لا تعرف كيف تجني وتوزع ثمارها، وفى كل الحالات هؤلاء جاهزون للتفجير أو التوجيه أو جني الثمار أو كل ذلك معاً.
حاول بعض الأدباء والفنانين في وقت ما الإبداع والإنتاج تحت شعار (الفن للفن)؛ لكن ذلك لم يصمد طويلاً، فلن يستطيع إنسان عادي؛ فما بالك بالفنان والكاتب، أن يعيش الآن في برج عاجي، تحطمت كل الأبراج العاجية، ولم يعد بوسع أحد ألا ينشغل بأمور الناس، وأمور الناس هي سياسة واقتصاد تتمحور حولهما كل الأشياء الأخرى، فالمبدع لا ينتج من فراغ، ولا يتوجه إلى الفراغ، وإذا لم يعِ جيداً نبض العالم الذي يعيش فيه فسوف يكتب على نفسه المنفى الاختياري والسقوط في دائرة النسيان، وهو يسعى بين الناس، فهل حقاً نريد فض الاشتباك بين ما هو سياسي وثقافي واقتصادي؟
أظن أنها محاولة بلا جدوى، وتضييع وقت وجهد يفضل أن ننفقه في محاولة فهم جيد للعلاقات الحاكمة بينها، وبالتالي التأثير فيها من قبل المثقفين ومن ثم الجماهير المثقفة لتوجيه تلك الموارد السياسية والثقافية والاقتصادية في خدمة الفرد العادي، الجمهور؛ بدلاً من أن تظل تلك الموارد والجمهور المثقف والعادي معها في خدمة قلة من الساسة والاقتصاديين يتحكمون بالعالم؛ لأن بأيديهم الخيوط الأساسية لهذا الارتباط ولتلك اللعبة.