مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

الليوه.. طقوس الفن السواحلي

لم يتفق الرواة والباحثون في الثقافة الشعبية على معنى محدد وواضح لكلمة (ليوه)، فهناك من يرى أنها اسم مبتكر الرقصة بمدينة ممباسا الكينية، أو أنها تنسب إلى قبيلة (اللو)، ويطلق عليها هناك رقصة (كيليواه)، كما أن كلمة (ليوا) معناها في اللغة السواحلية (الشراب). ورغم الاتفاق العام أن التسمية سواحلية الأصل؛ تشير إحدى الروايات إلى أنها محرفة عن كلمة (هيوه) التي تعني (هذا اليوم) لدعوة الناس إلى مشاهدة الرقص في يوم محدد. وتقول رواية أخرى إن التسمية تعني (الدائرة التي تشكلها حركة الراقصين)، وأن (ليوه) تطلق على نوع من السفن بشرق أفريقيا، نسبة للشكل الدائري الموجود بمقدمتها؛ ليتضح أن (ليوه) تعني (دائرة)، ثم أطلقت الكلمة على هذه الأنواع الفنية لدائرية أداء الرقصة الجماعية. علما أنه يطلق عليها (اللهيوة) بالبصرة.


أصول وإبداعات
الموطن الأصلي لفنون (الليوه) هو الساحل الشرقي لأفريقيا، تحديداً كينيا وتنزانيا والصومال، انتقلت إلى الخليج العربي عن طريق التجارة منذ العصر الجاهلي، حيث كانت السواحل الأفريقية مركزاً مهماً لتسويق البضائع والتمور العربية، واستيراد التوابل والأخشاب والزيوت. خلال رحلات العودة عادة ما اصطحب العرب العمال والبحارة الأشداء للحفاظ على البضائع خلال الإبحار. ولتقارب العرب والأفارقة في العادات والتقاليد البحرية عامة، والذائقة الفنية خاصة؛ فضل العاملون الإقامة بالخليج العربي لصيد الأسماك والغوص على اللؤلؤ، فانتقلت معهم فنونهم، ومنها (الليوه) بموسيقاها ورقصاتها. وهى الفنون التي انفعل واحتفى بها العرب، مما أدى لانتشارها في الأفراح والمناسبات، في عمان أولاً، ثم البحرين ثانياً، فالإمارات وغيرها ثالثاً، وذلك لاتفاق معظم المؤرخين والرواة البحرينيين المتخصصين في فنون (الليوه) أنها جاءت إلى البحرين عن طريق العمانيين، وللعلاقة التاريخية بين عمان وساحل أفريقيا، ففي العصر الأموي أرسل عبدالملك بن مروان جيشاً بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي لإخضاع عمان لحكمه، فهزمت القوات العمانية التي كانت تحت قيادة سليمان وسعيد أبناء الجلندي، وفر الاثنان بقبيلتيهما إلى الساحل الشرقي لأفريقيا واستقروا فيه. وظلت الهجرات العربية تتوالى على مر العصور، حتى ظهر التأثير العربي، متمثلاً في التسميات العربية لموانئ، مثل: دار السلام– ممباسا– زنجبار. ثم تعاقبت على المنطقة حكومات عديدة، ولم تهدأ الثورات حتى عام 1837م، عندما حكم سعيد بن سلطان كل سواحل شرقي أفريقيا. وبمرور الزمن، ونتيجة لأسباب سياسية وإقليمية؛ عاد الكثير من المستوطنين العمانيين إلى موطنهم الأصلي عمان، حاملين معهم فنون الساحل الأفريقي الذي تشربوا فيه الكثير من ثقافته وفنونه الشعبية. لعب ذلك دوراً في تبلور فنون (الليوه)، وتأثرها بالبيئة الجديدة، فأضيفت إليها بعض الإبداعات الآلية والنغمية. ومن عمان صدرت فنون (الليوه) و(السوما) و(الكتميري) إلى البحرين والدول المجاورة خلال ارتحال العمانيين لكسب أرزاقهم، وإلى وقت قريب ضمت البحرين عدداً كبيراً من العمانيين الذين أصبحت (الليوه) من وسائل ترفيههم المحببة. يؤكد ذلك أن أفضل فناني (الليوه) كانوا عمانيين، ونتيجة لتأثيرات الثقافة والفنون الشعبية البحرينية تبلورت فنون (الليوه)، واتخذت أشكالها الخاصة، لكنها أبقت على روح النصوص السواحلية، وأدخلت عليها بعض الجمل المحلية.


الفرق والآلات الموسيقية
تتكون فرق (الليوه) من عدد كبير من الجنسين ذوي الأصل الأفريقي، فوصل عدد راقصيها وراقصاتها قديماً إلى سبعين فرداً، أما الآن فيصل إلى خمسة وعشرين أو أقل. يقتصر العزف على الرجال، وتشارك النساء في الرقصات والغنائيات. يترأس الفرقة أقدمها فيكون بمثابة (الأب) لهم لوحدة الأصول، حيث يخضعون لأوامره. يساعده (الشاووش) في إبلاغ التعليمات والأوامر لباقي الفرقة. أما مجموعة النساء فتقودهن (الأم)، وغالباً ما تتكون من زوجات وأقارب الرجال. وتتكون الآلات الموسيقية المستخدمة في الليوه من المزمار (الصرناي) كآلة رئيسية، تصاحبها أربع آلات إيقاع: الطبل الكبير (ساباتا)– طبلة متوسطة (المسندو) أو (الجاكينكا)– طبلة صغيرة (الجابوه)-  (الباتو) أو (الفاتو) وهى صفيحة معدنية (تنكة). أهم معالم فنون (الليوه) الطبل الكبير الذي ينصب في منتصف دائرة، والشيء الذي لا نشاهده ويختفى تحته، هو كمية الجمر التي تساعد على استمرار حرارته مرتفعة حتى لا يضعف صوته أو يتأثر بفعل الرطوبة.


الموسيقى والغنائيات
بداية تجتمع الفرقة رجالاً ونساء بمقر يسمى (مكيد) يغنون ويرقصون فيه مرة أسبوعياً على الأقل، وهناك نصوص خاصة تغنى في الليوه بأنواعها: الترفيهية والوظيفية، ولكل منها أداء خاص، فيبرز من غنائيات الترفيه (المدوندو) المميز بالتوقيع باليدين دون الطبول، في حين يوقع فن آخر من فنون (الليوه) باستخدام عصاوين لطرق الطبل الكبير، أما الأداء فيبدأ أولاً بوصلة (الليوه) توقيعاً على الطبل، فيقوم (الفوندي) (عازف الصرناي) (بتوليف)، تقاسيم على مقام الأغنية التالية تكون بمثابة إشارة ونداء للآلات الإيقاعية بالدخول تباعاً، ثم تدخل آلة (المسوندو)، وبإيقاع هادئ تتبعها (الجيكانكا) ثم (الباتو)، فالطبل الكبير بضربة واحدة (مع بدء كل مازورتين، وعندما يكتمل النسيج الإيقاعي يعزف (الفوندي) لحن الأغنية (الترجمة) لغناء المجموعة تجاوباً وتبادلاً مع آلة الصرناي. أما الطبل الكبير فيبدأ بالزخرفة مع أداء (صولو) الصرناي، وعند غناء المجموعة يكتفى الضارب بإعطاء ضربة مع بداية كل مازورتين. في غنائيات الترفيه تستخدم عدة أغان مختلفة تباعاً لتطويل الأداء، يختارها (الفوندي)، مردداً في نهاية كل أغنية العبارة الأخيرة منها (إشارة على نهايتها)، عازفاً لحن الأغنية الجديدة، مختتماً بترديد نغمتين، وغالباً ما تكون الدرجة السابعة والدرجة الأولى (درجة الركوز) من المقام. (وحيد أحمد الخان: فن الليوه في البحرين دراسة تحليلية لنماذج من أغاني رقصة الليوه، مجلة المأثورات الشعبية، مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية، الدوح، قطر، السنة الثانية، العدد السابع، ذو القعدة 1407هـ، يوليو 1987م، ص 65.
تؤدى غنائيات (المودندو) عادة في الوصلة الثانية بعد استراحة، ومنها: آه يا نزوه/ آه يا نزوه/ بلادك وين يا نزوه. وتبدأ بنفس أسلوب (الليوه) الأول، وأحياناً يؤدى (المودندو) مباشرة بعد (الليوه) وذلك بعزف (الفوندي) لحناً لأغنية من أغاني (المودندو)، وعندها يترك ضارب الطبل الكبير العصاوين مستخدماً كلتا يديه.
كان هذا الفن يقام كأحد الطقوس بدلاً من البكاء لوفاة أحد الأفارقة في عمان، مثلما جرت العادة في أفريقيا. أما الآن فلا ترتبط أغانيه الترفيهية بمناسبة أو طقس معين، فيؤدى في أي مناسبة وفي أي الأوقات كزفة العرس وجر السفن الجديدة إلى البحر، إضافة للاحتفالات والأعياد والمناسبات العامة. تتميز فنون الليوه بتعدد الإيقاعات كسائر الإيقاعات الأفريقية، فتؤدي الآلات الثلاث الأولى: الباتو– الجيكانكا– الموسوندو، نسيجاً إيقاعياً ثابتاً طوال أداء أغاني (الليوه) و(المدندو). أما الطبل الكبير فيختلف أداؤه في (الليوه) عن أدائه في (المدندو)؛ ففي (الليوه) يلتزم الضارب بأداء ضربة واحدة في (بداية كل مازورتين، خلال غناء المجموعة، ولا يلجأ إلى الزخرفة لكي لا يغطي صوت الطبل على وضوح كلمات الأغنية) التي عادة ما تحتوي على بعض الكلمات الأفريقية غير المعروفة؛ و(يبدأ الضارب في الزخرفة عندما يأتي دور الصرناي. وفي (المدوندو) يلتزم الضارب بإيقاعات خفيفة غير واضحة (حفاظاً على وضوح غناء المجموعة)، وغالباً ما يؤدى بنفس الضربات الإيقاعية لآلة (المسوندو)، ثم يبدأ بالزخرفة عندما يحين دور الصرناي في العزف (المرجع السابق، ص 67). ورغم أن أصوله تعود إلى المقام الخماسي الأفريقي، إلا أنه يدون على المقام السباعي النغمات، وهذا هو تأثير البيئة العربية، والإضافة إليه، فقد أثرت البيئة المحلية في الآلة وكيفتها لتؤدي درجات المقامات الخليجية. ويؤدى فن (المتاري) خلال حفلات الزار، ويكون بغناء الموقع على الطبل الكبير، ومنه: (مدينة يا مدينة هو ياالله / مدينه يا مدينة هو ياالله / بازور مكة بيت الله). وتختلف إيقاعات (المتاري) عن (المودندو) ولا تستخدم آلة الصرناي، ويؤدى في البيوت والأماكن المغلقة، وذلك لطبيعته الخاصة. وعادة ما يغني ضارب الطبل الكبير، ويرد عليه الراقصون غناء المذهب، وبعدما يكمل غناء الكوبليه الأول فالثاني حتى نهاية (الشيلة). أما (الدنكمارو) فيغنى عند وفاة شيخ الزار، وهو طقس جنائزي، ولا توجد أغان كثيرة فيه، فهو أغنية واحدة فقط حزينة لا يغنى بعدها، فهو من فنون (المديندو)، وتعتبر هذه الأغنية عند أهل الصنعة من نفس فن (المديندو)، تختلف فقط في مناسبة الوفاة. أما (الزنجي) ففن آخر من فنون (الليوه)، سريع الإيقاع، يتنقل فيه الراقص من مكان إلى مكان بملابس زنجية يكسوها الريش، وتصبغ وتخطط الأجساد. إيقاعاته كسائر فنون (الليوه)، أما النصوص فلا اختلاف بينها، ولا يمارس هذا النوع في البحرين. ركز فنانو (الليوه) على استخدام المقامات الشرقية، وبخاصة (الراست) ذا التأثير النغمي الأكثر تفضيلاً وتناسباً مع ذائقتنا العربية من أنغام المقام الخماسي، في حين لم يؤثر فن (النوبان) رغم جذوره الأفريقية أيضاً، لاقتصار فنانيه أكثر على ما يناسب الذائقة الأفريقية من المقام الخماسي، فلم ينصهر في الفنون الشعبية العربية بشكل واضح أو مؤثر كما حدث في فنون (الليوه) التي حققت تلاحماً نغمياً بعيد الغور في الألحان الشعبية بالخليج العربي، فالتزم المؤدون بغناء أبعاد معينة من مقامات عربية مثل: الراست– البياتي– النهاوند، وبخاصة في فن (المتاري). أما الغناء فاعتمد في البداية على النصوص السواحلية سواء الأصلية أو تلك التي أضيفت إليها باللهجة البحرينية لتطويل الغناء وتنويعه، ومع مرور الوقت ولعدم معرفة (الفوندية) اللهجة السواحلية أو معاني النصوص الحرفية، إضافة لعدم حفظها وصونها، أسقطت العبارات الأصلية واستعان المؤدون بالنصوص الشعبية البحرينية. ويقال إن النصوص الأولى القديمة كانت تعبر عن الأحزان وتبنى عليها وعلى الفواجع. أما الآن فمعظمها يدور حول موضوعات الحب ويعبر عن معاني الغزل والغرام.
الرقصات
كما انقسمت غنائيات فنون (الليوه) إلى أغان ترفيهية ووظيفية؛ انقسمت أيضاً رقصاتها إلى ترفيهية ووظيفية، الأولى تكونت من جزءين:
1 - (الوقف) (الرقص وقوفاً): بمكان واحد، خلال تشكيل صفين متوازيين، الأول من الراقصين، والثاني من الراقصات، ويتضمن أداؤها الحركي التمايل تارة لليمين، وتارة لليسار، ثم الدوران حول النفس. من غنائياتها: يا ذا الثلاثة في المساجد يصلون/ واحد عديل الروح واتنين يولون/ يا ليل لدان دان اللدان/ ارحم وخاف الله/ يا مبروك شد الخيل واركب/ عمك عطشان بيشرب/ حس الربابة والسنطور ينني/ لما يأذن وأنا شايل فني.
2 - (الدواري) أو (الكسرة): وسميت كذلك لأن (الفوندي) يكسر لحن الأغنية الأولى ويدخل في الثانية، وعندها يتغير شكل الرقصة؛ فبدلاً من أن يأخذ أداؤها الحركي شكل التمايل والدوران وقوفاً في صف واحد؛ يتشكل دائرياً، بحيث يسير كل راقص وراء الآخر في شكل حلقة مستديرة، وقد تأخذ (شكل الرقم 8 بأداء سريع راقص على نصوص غنائية خاصة، أو ما يعرف بـ(غناء الدواري). (خالد عبدالله خليفة: آلة الصرناي وفن الليوه، مجلة الثقافة الشعبية، أرشيف الثقافة الشعبية، البحرين، السنة الخامسة، العدد السابع عشر، ربيع 2012م، ص 128)
وعادة ما يؤدى هذان النوعان في الاحتفالات والمناسبات السعيدة كالأفراح، حيث تضفي عليها أجواء من البهجة والسرور لسرعة إيقاعاتها وجماعية أدائها، وتفردها عن الرقصات الشعبية الأخرى بامتدادها حتى منتصف الليل لتسري عن الساهرين ومتذوقيها. ورغم ارتباط فنون (الليوه) عامة بعادات الاحتفال بالأفراح، إلا أن هذه الرقصة تنفرد دون سواها بعادة خاصة يمارسها أهل العرس صباح اليوم السابق لإتمام مراسيم الزواج، (حيث يجتمع الراقصون وحاملو الطبول والمزامير ويذهبون إلى منزل العريس، ليأخذوا الجهاز الذي أحضره)، ليطوفوا به على الناس لعرضه عليهم و(إعلامهم بكرم العريس وحرصه على تكريم عروسه، ويظلون يطوفون وهم يغنون حتى تكتمل الدورة ثم يعيدون الجهاز). (حسن قايد: بادية الإمارات تقاليد وعادات، مؤسسة الاتحاد للصحافة والنشر، الإمارات، بدون تاريخ، ص 155)
وأحياناً يرقص رجل مع امرأة بنفس الخطوات والإيقاع، ممسكاً بيدها في بعض مراحل الرقصة، لتوحيد الخطوات وإتقان الأداء ومستوى التجاوب مع الأنغام. أما الرقصات الوظيفية فهي (المداندو)، ومن غنائياتها: ما با شريكه بوديه / ستاكيه. و(المتاري)، ومن غنائياتها: (سندم بندم ريما ريما يوسه ريما يوساه). أما رقصة (الدنكمارو)، فمن غنائياتها: (بيكا زمر هو ليوه/ بيكا زمر هو/ بيكا زمر كنكم يا ليوه بيكا زمر هو/ ليوه بيكا زمر ياليوه/ وانا يالبوه وكمنجا/ هو لبوه وكمنجا/ كريمة يا فندي ماما/ هيو الله يا سيد ماما). وهي عادة ما تؤدى تعبيراً عن الحزن في حالات الوفاة، أو خلال طقوس الزار. وتعتبر رقصة (المتاري) جزءاً من فن (المتاري) –أحد فنون (الليوه) عامة– وهى تمارس في حفلات الزار بدون (الصرناي)، وعادة ما يغني عليها ضارب الطبل الكبير وترد عليه المجموعة الراقصة، بعد تشكيلهم حلقة دائرية، وتحركهم في أماكنهم ميلاً للأمام وخلفاً، مع دورانهم حول أنفسهم. أما رقصة (الدنكمارو) فلا تتم إلا لوفاة شيخ الزار كجزء من طقس جنائزي، خلال  عديدهم عليه بأغنية واحد حزينة، فليس لذلك الفن غنائيات كثيرة.

ذو صلة