في معرضها الشخصي الثالث تحت عنوان (روح المدينة)؛ وصلتني دعوة من الفنانة نجلاء، وكنت شديد الحرص على الحضور. حينما تصعد درجات السلم للطابق العلوي من صالة جاليري نايلا الكائن بشارع التخصصي بالرياض؛ تستقبلك لوحة تتشبع بنسيج لوني يجمع بين الأخضر والأوكر وقليل من الأزرق الداكن، حيث تتأمل من خلالها الأشجار والوديان التي تحتضن المدينة الوادعة، والتي تتماهى مع سكونها وسلام حاضرها دون ضجيج لتجسد تللك اللحظات التي تسجل رؤيتك لمكان عزيز بعد مرحلة صعودك مكاناً مرتفعاً.
- تميزت لوحاتك في كثير من مشاركاتك الداخلية والخارجية بموضوعات وأساليب تتلامس مع طريقة (الآفاقية) التي ابتدعها والدك الفنان الرائد محمد موسى السليم (يرحمه الله)، هل كانت لك محاولة أو أكثر للخروج والاستقلال بأسلوب خاص بك؟
بعد أن تعددت المشاركات الداخلية والخارجية، وبوجود صور لأعمالي بالكتالوجات والكتب المصاحبة للمعارض، وهناك إحدى اللوحات شاهدها السيد روبن ستارت والذي تصادف وجوده بمدينة جدة للبحث عن أعمال فنية للاقتناء، سأل أحد الزملاء من فناني جدة إن كانت اللوحة حقيقية وتخص الفنان محمد السليم (يرحمه الله) أم أنها لوحة مقلدة عن أعماله. ولكن الفنان وضح له الأمر بأن اللوحة هي لابنة الفنان الراحل واسمها نجلاء وتقيم بالرياض، فحضر الرجل للرياض بأقرب طائرة والتقى بي وتحدث معي وشاهد أعمالي. ومن تلك اللحظة حاولت أن أتخذ منحى جديداً. دعنا نقول الانتقال بالآفاقية إلى الشكل الرأسي أو العمودي. وجاءت معظم لوحات معرضي الأول، والذي كان تحت عنوان (الأكنة)، وأقيم في دبي؛ جاءت اللوحات بتلك الصورة الرأسية، والمعرض يخص بالدرجة الأولى موضوع المرأة المكنونة التي تنكفئ على بيتها وأولادها، ومع ذلك ينالها الكثير من الضيم بسبب تغيرات في المناخ البيئي والمناخ الاقتصادي، ناهيك عن ضغوطات وإرهاق متابعة مستقبل الأبناء.
- عفواً، من الملاحظ أنك كثيرة السفر والترحال هنا وهناك، خصوصاً بعد رغبتك في التقاعد المبكر؛ هل يعني ذلك أنك تتفرغين للفن الآن؟ وإلى أي مدى يتاح للأم والزوجة هذا المناخ الإبداعي الذي يؤتي ثماره في صالات العرض؟
من مميزات التقاعد أنني حرة من أي التزام مهني رسمي. في عملي السابق كنت مشرفة تربية فنية في تعليم منطقة الرياض في الحرس الوطني. وبعد التقاعد أصبح لدى وقت وفير، فتفرغت للفن تماماً، ومن متطلبات الفن أن تبحث عن كل جديد خارج الحدود القريبة، فلا بد من السفر والتنقل من مكان لآخر حيث المعارض والمتاحف والفعاليات الفنية المختلفة من مسرحيات وسينما وحفلات الأوبرا الموسيقية، وكلها فنون تغذي روحك وتثريها إبداعياً. أما بالنسبة كوني زوجة وأماً لأربع أولاد ولله الحمد أعمارهم فوق الـ16 سنة، إذ لم يعودوا صغاراً بحاجة أن التصق بهم ليل نهار. وزوجي رجل متفهم جداً وداعم لمشواري الفني بقوة. وهذا من حسن حظي - والحمد لله.
- ما مدى تقبل الدارسين والمهتمين والنقاد بتوثيق وترسيخ الآفاقية التي تحملين رسالتها في المحاضرات والملتقيات والمعارض بالشرح الجاد؟
بعد أن عدت للمشاركات الفنية، وكان ذلك من خلال دعوة مجموعة ألوان والتي كان يرأسها الفنان عبدالجبار اليحيا -رحمه الله، في دورتهم الثالثة - أعتقد عام 2005م، وبتشجيع الفنان سعد العبيد؛ بدأت وبقوة أعيد اسم الوالد رحمه الله باتباع أسلوبه (الآفاقية)، وكنت وقتها أرسم الآفاقية تماماً كما تعلمتها من والدي رحمة الله عليه. إلا أنني انتقدت من قبل كثير من الفنانين والنقاد واعتبروا تأثري بوالدي نقطة سلبية كفنانة. لكنني واصلت الأسلوب نفسه إيماناً مني أن تأثري بوالدي أمر طبيعي جداً، وأن عملية الخروج من أسلوب الآفاقية يأتي مع الوقت والممارسة. كثيرون اعتبروا الآفاقية أسلوباً خاصاً، وليست مدرسة قابلة للبحث والممارسة والتطوير. قدمت كثيراً من المحاضرات والندوات حول موضوع الآفاقية وقصتها مع والدي ومعي، وها أنا بشهادة الجميع أقدم معرضي الثالث (روح المدينة) بأسلوب ممتد من الآفاقية، وتفاجأ الكثيرون من هذه النقلة الجديدة، وما زال لدي الكثير القادم مستقبلاً الممتد من الآفاقية.
- بماذا تصفين الحراك التشكيلي التي تشهده مدينة الرياض لهذا العام، رغم الزحام وأعمال الطرق في مدينة لا تنام؟
الرياض قادمة بحلة جديدة تبشر بالخير في كل المجالات الاقتصادية والمعمارية والسياحية والصناعية والثقافية، وكذلك الفنية؛ حيث المتاحف والصالات الفنية والأكاديميات الفنية والمسارح والموسيقى.. إلخ.
أرى مستقبلاً مشرقاً كما كان والدي يحلم بالأجمل.
- لقد اختلط عندي المعنى وراء عنوان معرضك الثاني (شجار)، والذي أقيم بالرياض بالدرعية، واعذريني لقد تصورت أن الألف قد سقط سهواً عن كلمة (أشجار)، وبخاصة أن معظم اللوحات تميزت بالأفرع الناتجة من الجذع أو الملتفة حوله؛ أطمع في تفسير ذلك؟
أسقطت أنا متعمدة الألف في كلمة أشجار؛ لأن معنى المعرض لا يحكي عن الشجرة بصفتها الشجرة، وأنما قصدت تشابك أغصانها و(شجارها) في تشابك أغصانها والذي يعكس الوضع السياسي الحالي في الوطن العربي.
- لعل ذلك يعكس فعلاً ما هو كائن من اختلاف في وجهات النظر تحول إلى تباين في الرؤى متعدد الزوايا؟
معك حق، وتحدث في ذلك العديد من الأصدقاء، ولكني فعلاً كنت أحسب حساب ما يدور في المجتمع من وجهات نظر لأمور كثيرة تميل في معظمها للشجار وليس لقبول الرأي والرأي الآخر، أو حتى تجنب الحوارات وهو أمر غير مرغوب به في ظل مجال التحاور من أجل الأصلح، ورغم أن تعدد الرؤى شيء فعلاً نحتاجه، ولكن خرج المعرض بمجموعة من التأويلات ربما لم تلامس ما أشعر به كإنسان ضمن نسيج المجتمع وأحاول وضع كلمتي، وهذا حقي في إبداء رأيي باللون والشكل إذا احتدم الشجار في الحوار المباشر بين الناس، ولم يعد للعقل صوت غير الفن.
- حدثيني عن روح المدينة، ولماذا أتت كل لوحة في حالة استقلال لوني تقريباً، من لون واحد وتفريعاته؟
روح المدينة هو معرضي الشخصي الثالث، وروح المدينة ليس مجرد اسم أو عنوان لمعرض فقط، وإنما إحساس ينتابني وأنا أشاهد بعض المدن الكبيرة تسقط وتنهار أمجادها، ومدن تسابق الزمن للصعود والتطور. كأن للمدن قدراً، وعمراً، وروحاً.. صحيح أن المدن مهما حدث هي لا تموت، ولكني أبحث داخلها وخارجها عن الذين تألموا وهاجروا والذين تحملوا الأوجاع، لا أنظر للأطلال فقط، وإنما لروح المدينة، وهم سكانها بملامحهم وأشكال بيوتهم وألوان ملابسهم وروائح شوارعها.
نعم لقد لاحظت أن معظم زوار ومشاهدي المعرض كان يعقب بأنه المعرض اللصيق جداً بالتجربة الآفاقية التي ابتدعها الوالد يرحمه الله، ولي الفخر والاعتزاز أن تطوق تجربته أعمالي وتتقارب في أشكالها من الأسلوب، وأن يشعر التشكيلي والمتابع والمهتم أن محمد السليم موجود بيننا، وهذا قدري أن يعيش أبي داخل أفكاري، ولكن الجميل أن اللوحات لا تتبنى نظرية الاستنساخ والتقليد كما يحلو للبعض أن يشير بأصابع الاتهام التي أظن أنها توجه للغير وليس لي.