أشار الدكتور نعيم عطية في كتابه القيم (التعبيرية في الفن التشكيلي/ سلسلة كتابك/ دار المعارف بمصر)؛ إلى الأسباب الفنية والتاريخية التي ساهمت في نشأة التعبيرية في الفن التشكيلي، بوصفها رد فعل مضاد للاتجاه التأثيري وغيره من الاتجاهات والمذاهب الفنية، كما كشف اللثام عن ماهية هذا الاتجاه الفني وإبداعات أنصاره، فانظره يقول: (يزعم زعماء التيار التعبيري أن لوحاتهم مستمدة من عواطف ونوازع مدفونة في عقول ونفوس مبدعيه لا ترى بالعين المجردة)، ودلل على صحة رأيه بالإشارة إلى قبول نقاد الفن في أوائل القرن العشرين هذا الرأي الفني والترويج له، حيث أكدوا -على وجه الدقة واليقين- أن لوحات التعبيريين خالية من المناظر الطبيعية وتأثيراتها شكلاً وموضوعاً، ودعموا موقفهم النقدي بالاستشهاد بقول زعيم المدرسة التعبيرية (بول جوجان/ 1848/ 1903) الذي حذر فيه المصورين الشباب من متابعة الطبيعة عن كثب شديد، ودعاهم إلى البحث عن ذواتهم بدلاً من إلصاق عيونهم بالعالم المرئي، وانتهى إلى القول بأن كل عمل فني يخلو من الحضور الإنساني فن قاصر وعقيم.
وقد نفذ الفنانون التعبيريون نصيحة كبيرهم جوجان كاملة، وخير شاهد على ذلك أعمالهم التي عبرت عن تجاربهم الذاتية الفردية، وحصولهم على مساحات ودرجات عظيمة من الحريات بلا قيود، والتي مكنتهم من تجاوز كل قوانين الطبيعة في شجاعة وجرأة لا نظير لهما، ومن الأمثلة الواضحة في هذا الصدد (تغيير النسب المتعارف عليها فنياً بين الأشياء والشخوص)، ومن أبرز معالمها حلول قوة اللون مكان جمال التعبير، الأمر الذي دفع خصوم هذه المدرسة إلى القول: (تعد الأعمال التعبيرية تحريفاً وتشويهاً لقوانين الطبيعة الصارمة، حيث جاءت كل الكائنات الطبيعية في لوحات التعبيريين منفرة بسبب المبالغة في استخدام الألوان). وفي ذلك نقول على لسان الدكتور عطية بتصرف: اكتسب اللون في المدرسة التعبيرية أبعاداً جديدة لم تعرفها المدارس الفنية السابقة عليها، حيث أصبح أكثر حيوية وقوة، وبلغ في بعض الأحيان درجة من الوحشية. كما تبدل الغرض من استخدام الألوان؛ فلم تعد قاصرة على توضيح الكائنات الطبيعية؛ لأنها أصبحت رمزاً. ومن أبرز معالم هذا التغيير الوجوه الخضراء والجياد الزرقاء والبحار الصاخبة ذات الأمواج الحمراء، الغابات المائجة، وتكشف هذه اللوحات بجلاء حالات التوتر الفني والذهني والنفسي لمبدعيها.
كما أشار بعض نقاد الأدب والفن إلى العلاقات بين الألوان والمشاعر والأحاسيس، وفي ذلك نقول على ألسنتهم: (ينبئ اللون الأزرق عن الحب، والأحمر عن الوجد الشديد، والأصفر عن الغيرة، والأبيض عن البراءة)، كما لا تفوتنا الإشارة في هذا المقام إلى استفادة الفنان من هذه العلاقات بين الألوان والمشاعر والأحاسيس والعواطف والتي عرفتها الأغاني الشعبية وكتابات جوته والرومانسيين، كما يمكننا القول بأن هؤلاء المبدعين الجدد قد استفادوا من أفكار ونتائج عالم النفس المشهور (فرويد) السيكولوجية، كما نؤكد أيضاً على استفادتهم من فنون الدراما وتطوراتها وتحولاتها والتي تجلت بوضوح في أعمال رواد الحركة التعبيرية (الصور الشخصية، البورتريهات)، حيث صوروا أنفسهم في هذه اللوحات أبطالاً في مأساة الحياة (لوحة الفنان فان جوخ الذي صلم أذنه، ولوحات الفلاح الميت والأم القذرة أو العاهرة خير شاهد على ذلك)، كما تأثر بعضهم بروايات فيدور ديستوفسكي خصوصاً في تصويرهم للشخصيات المنقولة عن رواياته بأساليب معتمة، أو إبراز العداء بين الرجل والمرأة، وعلى الرغم من هذا التأثر والتفاعل بين الأدباء والمصورين سعوا جميعاً إلى تحرير الأدب والفن (كل في اختصاصه) من القيود والعراقيل التقليدية والأكاديمية (المذهب الطبيعي بصفة خاصة). وعلى الرغم من هذه الثورات الفكرية والفنية ضد القوالب الكلاسيكية وغيرها؛ خلف لنا بعض التعبيريين وبخاصة الكبار تراثاً خالداً من (المسرحيات، المذكرات، القصص، الروايات، القصائد)، يستحق النقد والتدبر والقراءة الجادة.
أعلام الفن التعبيري
تعرفنا فيما سبق على أهم المعالم التي انطلقت من قواعدها المدرسة التعبيرية في الفن التشكيلي، وتعتبر ألمانيا أهم القواعد الأولى التي انتشرت منها هذه المدرسة في كل أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية والعالم العربي؛ ويمكننا في هذا المقام تعريف القارئ الكريم وتذكيره بأهم وأشهر أعلام هذه المدرسة الفنية على النحو التالي:
1 - جيمس أنسور (1860/ 1949)، يعتبره السرياليون من أسلافهم الكبار؛ لأنه حرر التصوير الحديث من نير النقل الحرفي عن الطبيعة، ومهد الطريق أمام العاطفة والخيال. وفي ذلك نقول على لسان الدكتور نعيم عطية: (عثر أنسور على عالمه وسيطر عليه أسلوب متفرد، ومن خلال إلباسه لشخوصه أقنعة تهريجية مما يلبس في الكرنفالات أو إحالتهم إلى مجرد هياكل عظمية ترتدي الأسمال، وقد مكنته هذه الهياكل والأقنعة البشرية من اتهام أي إنسان أو السخرية منه، وعلى الرغم من تصاويره الساخرة والمعتمة إلا أنها تميزت بالوقار التهريجي المؤرق، وقد أعقب أنسور ثلاثة في التيار التعبيري من المصورين البلجيكيين، هم: (فريتزفان دين بيرج، كنستان بيريميك، جوستاف دي سميث)، ولكنهم لم ينالوا الشهرة والمكانة الفنية التي تبوأها أنسور)، هذا مع تميز لوحات بيريميك (1886/ 1952) ببعض الخصائص الفنية الرائعة (سخاء الألوان، تلوين لوحاته كاملة) (ليس بها شبر عارٍ من الألوان)، البيوت وحظائر الحيوانات في لوحاته هي البيوت والحظائر الريفية البسيطة، أشكاله تتصف بالضخامة وتحاشي التفاصيل، تدل لوحاته عن صدورها من يد قوية مندفعة بلا تعقل رغم تميز خاماته بالرفاهة).
2 - مونش: من أشهر الفنانين في التيار التعبيري، ومن المعجبين بفن فان جوخ وجوجان وسوراه ولوتريك وجماعة الرمزيين المسماة بجماعة الأنبياء. أقام العديد من المعارض بدأها بمعرض برلين العام 1892م، أثارت لوحاته التي عرضها في هذا المعرض جدلاً واسعاً بسبب تعبيراته عن عجز الإنسان عن مواجهة جبروت الطبيعة، فرض كلمته على شباب الفنانين الذين تتلمذوا على يديه، كما حرص فرويد عالم النفس المعروف على تفسير أعماله وبيان مرجعياتها السيكولوجية، وظروفه الأسرية القاسية وتأثيراتها على إبداعاته وخيالاته، وأسباب غموضه إنسانياً وفنياً، اعتمادا على قوله (إنني أسمع الصراخ في الطبيعة).
3 - جماعة الجسر: تأسست الجماعة عام 1905 من ثلاثة فنانين ألمان، لاقت قبولاً وترحيباً في المجالات الفنية، الأمر الذي دفع غيرهم من شباب الفن إلى الانضمام إليها، أقامت أولى معارضها الفنية العام 1906، ولكنها تشتت وتفككت العام 1913، بسبب الخلافات الفنية بين أعضائها وغيوم الحرب العالمية الأولى. تناولت أعمالها الفنية العديد من الموضوعات التعبيرية: (المسرح، السيرك، دور اللهو، حلبات السباق، بيوت المتع المحرمة). كما لا تفوتنا الإشارة في هذا المقام إلى تميز أعمال هذه الجماعة بالخلط بين معالم ومدارس الفن الألماني القديمة والأغراض والأساليب التعبيرية المستوحاة من فنون وثقافات الجزر الآسيوية البعيدة، فضلاً عن اهتمامهم بدراسة تاريخ الفنون البدائية وأفعال المجانين وألعاب الأطفال.
4 - جماعة الفارس الأزرق، نشأت في ميونخ بواسطة مجموعة من التعبيريين، ومن أشهر أعضائها نذكر: راسلي كاندينسكي وإليكس فون جرالينسكي، وبول كلي، وفرانز مارك، وأوجست ماك، وجميعهم كانوا على الرغم من اختلاف جنسياتهم على صلة بفناني الطليعة الفرنسيين رووه وبراك وبيكاسو. واسم الجماعة مستوحى من اسم لوحة لكاندنيسكي، وقد أصدرت الجماعة نشرة باسم الجماعة تضمنت مستنسخات من أعمال روسووسيزان وماتيس من أعمال المصورين الفرنسيين، فضلاً عن أعمال لمصورين ألمان وغيرهم من جنسيات أخرى أيضاً. وقد كان لكل هذه المؤثرات انعكاساتها على عطاء جماعة الفارس الأزرق التي كان أسلوبها في المجموعة أكثر زخرفية من أسلوب سابقتها (جماعة الجسر)، وأكثر انفتاحاً على الوحشية والتكعيبية، وأكثر استعداداً للتخلي عن الواقع وعدم الالتزام به، ورويداً رويداً انتحى كل من فناني الفارس الأزرق طريقاً خاصاً، ويمكننا في هذا المقام تعريف القارئ الكريم بالخصائص الفنية لكل فنان على حدة على النحو التالي:
- ماك (1887/ 1914): عرف بشخوصه الطولية الجادة والمتجمعة في المتنزهات والشوارع، مع بساطة الرسم وتوهج التلوين.
- جوالينسكي (1864/ 1943): اشتهرت لوحاته -وأشهرها عن رؤوس النساء- بحرارة الإيمان، كما عرض بالاشتراك مع المصورين الفرنسيين مستخدماً الأخضر والأحمر والقرمزي في أعلى درجاتها، وبحس ديني مكثف.
- ليونيل فيننجر (1871/ 1956): عرض مع جماعة الفارس الأزرق لوحاته ابتداء من العام 1913، وكشفت لوحاته عن حبه للتكوين الصارم الذي اكتسبه من التكعيبيين ولازمه طوال حياته، كما نبهت لوحاته عن إحساسه بالضوء وتأثيراته، وتؤكد حرصه على استخدام اللون الغامض الرهيف لإضفاء الشفافية الأثيرية على الهندسيات الصلبة لسفنه وعمائره.
- كاندنيسكي (1866/ 1949): يعتبر من أبرز رسامي هذه المدرسة تفوقاً، ذاع صيته كرائد للتجريبية الحديثة، كشفت لوحاته عن نزعته واتجاهه الفصل بين الفن المجرد وبين الموضوع المشخص، لإيمانه بأن الفن المجرد ليس مجرد ترتيب أشكال وألوان على مسطح؛ بل هو تعبير روحي أصيل. وبناء عليه تتميز لوحاته التعبيرية بخلوها من الموضوع.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى فتحت المتاحف وصالات الفن أبوابها في كل أرجاء أوروبا عامة وألمانيا خاصة أمام أنصار الفن التعبيري الذين ما زالوا على قيد الحياة ولم تحصدهم آلات الحرب لعرض لوحاتهم، وقد ساهمت (مجلة العاصفة) التي ظلت تصدر بانتظام حتى العام 1928 في التعريف بالمبدعين الألمان وطبع ونشر أعمالهم الفنية على صفحات الكتب وعبر وسائل الإعلام المتاحة، لإيمان المفكرين الألمان في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع بأهمية دور الفن (الجهاد) في رفع شأن ومكانة ألمانيا حضارياً وثقافياً، وقد لعبت مجلة (الفن الحديث) دوراً مهماً ومؤثراً في تبوؤ الفن الألماني على اختلاف مدارسه المكانة السامية الفنية التي يستحقها، ولكن للأسف لم تجد هذه التوجهات الفنية رضا وقبول السلطات النازية التي أصدرت أوامرها التعسفية بتجريد المتاحف وصالات العرض من لوحات التعبيريين ورميها في الشوارع وعلى الأرصفة، الأمر الذي دفع بعضهم إلى الهجرة خارج ألمانيا حرصاً على حياته وفنه، بينما تعرض من بقي منهم في ألمانيا لكل ألوان الظلم والتنكيل والتحقير الشديد وكل أصناف الإهانات، ولا تفوتنا الإشارة في هذا المقام إلى رد اعتبارهم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939/ 1945)، وعلى الرغم من ذلك خلت كتب ومنشورات الفن من أعلامهم بسبب إصابتها بالجمود والتحجر؛ لأن الفن لا يعترف أو يقر بالظروف الطارئة للفنان.
وقد فتحت بلجيكا أراضيها ومتاحفها وصالات فنونها أمام الفنانين الهاربين من آثار وويلات الحروب، ويعتبر الفنان أنسور أشهر الفنانين من أشهر الذين فروا إليها وذاع صيتهم وانتشرت لوحاتهم، كما اشتهر من بعده بعض الفنانين من أنصار الفن التعبيري نذكر منهم فريتزفان دين بيرج، كستان بيريميك، جوستاف دي كيث، على الرغم من كونهم أقل موهبة في فن التصوير من جيمس أنسور.
وعلى الرغم من تنوع التراث الثقافي في فرنسا، لم تنال المدرسة التعبيرية القبول المناسب من الفرنسيين، ومن أشهر التعبيريين الذين خذلهم الشعب نذكر الفنان جورج رووه الذي انتقل من المدرسة الوحشية إلى المدرسة التعبيرية بعد تمرده على التقاليد والأعراف الظالمة التي عاشها وأسرت فنه وإبداعه، وتدل لوحته الشهيرة (العاهرات) على ثورته ورفضه لكل أنواع وأشكال وأساليب الظلم والطغيان والدناءة، كما شاركه هذا التمرد في مرحلة لاحقة الفنان (توريه دوميه)، ولا تفوتنا الإشارة في هذا المقام أيضاً إلى الفنان (رامبرنت: 1606/ 1669)، ونذكر أيضاً (شيم سوتين: 1894/ 1943)، وعلى الرغم من عدم اهتمام لوحات سوتين بالبحث عن مصادر العذاب وعلاجه ودوائه، إلا أنها تميزت بجمال ألوانها أكثر من شخوصها المنقولة من الواقع الذي دب فيه الفساد (ألوانه أقرب إلى الوحل، ولكنها غنية ونابضة بالحياة، وأكثر الألوان المستخدمة الأحمر الصارخ والأزرق الليلى، الوردي الرقيق، الأبيض المغموس في الأصفر أو اللازوردي)، أما شاجال المولود العام 1887 م فقد اعترف بفضل المدرسة الفرنسية على فنه واتجاهاته وألوانه وشخوصه رغم إعلانه مخالفته الصريحة للمدرستين الوحشية والتكعيبية، وشاجال هو صاحب العبارة المشهورة (ولى الزمن الذي كان يتغذى الفن من عناصر يستعيرها من عالم الطبيعة، أي من الخطوط والألوان فحسب). ولا تفوتنا الإشارة في هذا المقام إلى اختلاط الصورة التعبيرية بالصورة السريالية في لوحاته.
لقد تعرفنا فيما سبق على أشهر أعلام التعبيرية في الفن الغربي، ويمكننا الإشارة في هذا المقام إلى أشهر التعبيريين في الفن العربي، ومن أبرزهم: راغب عياد المولود العام 1892، حامد ندا المولود 1924، جاذبية سرى المولودة العام 1925 والتي تحولت من التعبيرية الاجتماعية إلى التعبيرية التجريدية، وفؤاد كامل المولود العام 1919 (الذي مارس عن جدارة وجسارة التصوير الحركي من خلال تجريديته التعبيرية)، وجورج البهجوري المولود العام 1932، حيث ارتقت رسومه الكاريكاتيرية إلى تعبيرية تجلت بالأخص في شخوصه النحيلة السمراء التي تطالعك عيونها بشتى الأسئلة، وتستفسر منك عن شتى الإجابات، والمصور السكندري فاروق شحاتة المولود العام 1938 الذي كرس أعماله في الحفر للترجمة عما في قلب الإنسان من ألم واحتجاج، ولعله أكثر مصورينا ارتباطاً بالتعبيرية الألمانية، كما يمكن للتعبيرية المصرية أن تفتخر بأعمال المصور الكبير رمسيس يونان المولود العام 1913.