مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

الـعقل الجمالي عند الإمام ابن حزم ثم عند الصوفية والزهاد

قال أبو عبدالرحمن: الـمشتهر في الفلسفة تقسيم القيم والمعايير إلى ثلاثة أقسام: قيمة منطقية موضوعها (نظرية الـمعرفة والعلم)، ومصدرها العقل بمصادره الحسية. وقيمة خلقية موضوعها السلوك، ومصدرها الحق شرع الله، ثم أيديولوجيات لا ترى أن الأخلاق في نفسها قيمة مثل مذهب الـمنفعة عند (إستوارت مل). وقيمة جمالية موضوعها إحساس القلب، ومصدرها نوع الإحساس الذي في القلب؛ فإن كان انقباضاً وألـماً فهو قبح، وإن كان صدوداً بلا انقباض فهو برودة، وإن كان سروراً ولذةً وبهجةً فهو الجمال. والـمحقق أنهما قيمتان وحسب: قيمة وجدانية، وهي الـمشاعر من لذة وألم، وفرح وترح.. إلخ، وقيمة منطقية مصدرها الفكر تصوراً وتصديقاً. وإذا قيل القيمة الدينية: فليس معنى ذلك أن الدين قيمة ثالثة؛ بل الدين قيمة منطقية وجدانية إذا صح ثبوتاً ودلالةً؛ لأن النص الشرعي مصدر الأحكام الشرعية خبراً وإنشاءً. فالفكر بقيمه المنطقية مبرهن على ضرورة الدين وصحته وعصمته إجمالاً، كما أنه مبرهن على صدق أخباره وأحكامه تفصيلاً. ولهذا فالعقل مصدر الإيمان بالله؛ لـما بثه الله في الأنفس من آيات بينات هي براهين قطعية فالـجة، ثم بعد ورود الشرع الصحيح ثبوتاً ودلالةً يكون الشرع حاكماً على العقل، موجهاً له؛ لأن العقل من خلق الله، والشرع تنزيل الله الأعلم بما فيه صلاح العباد والبلاد. وحلاوة الإيمان وبهجته، وأشواقه الروحية: وجدانات في القلب؛ إذن الدين معقول بالنص، خلقي بالنص، جمالي بالنص. والله سبحانه وتعالى فوض إلى العقول والقلوب المؤمنة أموراً من شؤون الدنيا تدرك بها الحق من الباطل، والخطأ من الصواب، والخير من الشر، والجمال من القبح أو الـبرودة؛ ذلك أن العقول ووجدانات القلوب كلها: من مصادر التشريع فيما فوض إليها كما في قول الله سبحانه وتعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً) (الإسراء: 36)، وقولـه سبحانه وتعالى: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدةً فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) (الأحقاف: 26). والشرع المطهر تدخل في بعض المقتنيات والممارسات بتحريم أو كراهية أو إباحة مفضولة؛ وليس ذلك لبطلانـها أو قبحها في نفسها؛ وإنما ذلك لغيرها؛ فالذهب والحرير جمال وزينة وعظمة وكمال يحكم العقل بحسنهن، وتوجد آثار جمالـهن ولذاتـهن في القلب؛ ومع هذا حرمهن ربنا على الرجال لـمصالح كثيرة منها الرأفة بمشاعر الفقراء، وضرورة تصريف الورق فيما وضع له من حيث يكون ثمناً للأشياء، ومنها الزهد في هذه الدنيا القصيرة لتحصل المتعة الدائمة في الآخرة، كما قال الله سبحانه وتعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون) (الأحقاف: 20). والشعر إذا تجرد مضمونه من واجب أو مستحب أصبح مباحاً مستوي الطرفين تارةً، ومفضولاً تارة، ومكروهاً تارةً، ومـحرماً تارةً بمقدار ما يصد عن الواجب وعزائم الأمور، ومستحباً تارة بمقدار ما ينشط متلقيه على الواجبات والمستحبات.
قال أبو عبدالرحمن: تناول الإمام ابن حزم الشعر شرعاً ونقداً فنياً من جهة الصدق والكذب، إلا أن شواهده الشعرية تدل على أنه أراد الصدق الفني دون الصدق الخلقي. وفرق ما بينهما: أن الصدق الفني أن يـحسن بلوغ الغاية في التصوير من غير إحالة، وأن الصدق الـخلقي يكون بأن لا يدعي غير واقع كمن يدعي الشجاعة وهو أسلح من حبارى. قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: هذه صناعة قال فيها بعض الحكماء: (كل شيء يزينه الصدق إلا الساعي والشاعر؛ فإن الصدق يشينهما)؛ فحسبك بما تسمع، وقال الـمتقدمون: (الشعر كذب؛ ولهذا منعه الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) (يس: 69)، وأخبر تعالى أنهم يقولون ما لا يفعلون، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإكثار منه؛ وإنما ذلك لأنه كذب إلا ما خرج عن حد الشعر فجاء مجيء الحكم والـمواعظ ومدح النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأما ما عدا ذلك فإن قائله إن تحرى الصدق؛ فقال:
الليل ليل والنهار نهار
          والبغل بغل والحمار حمار
والديك ديك والحمامة مثله
              وكلاهما طير له منقار
صار في نصاب من يـهزأ به، ويسخر منه، ويدخل في الـمضاحك، حتى إذا كذب وأغرق؛ فقال:
ألف السقم جسمه والأنين
            وبراه الهوى فما يستبين
لا تراه الظنون إلا ظنوناً
      وهو أخفى من أن تراه الظنون
قد سمعنا أنينه من قريب
    فاطلبوا الشخص حيث كان الأنين
لم يعش إنه جليد ولكن
         ذاب سقماً فلم تجده الـمنون
(حسن وملح).. (طوق الحمامة /ضمن رسائل ابن حزم 355-354/4).
قال أبو عبدالرحمن: البيتان الأولان ذكر عنهما ابن سعيد بكتابه (الـمغرب) كما في تعليق أستاذي الأستاذ الدكتور إحسان عباس على كتاب (التقريب) للإمام ابن حزم رحمهم الله سبحانه وتعالى (رسائل ابن حزم) 4/ 354: أن ابن هانئ الأندلسي لـما قدم على جعفر بن علي صاحب الزاب الأوسط وجد بابه معموراً من الشعراء؛ فخاف أن يـحولوا بينه وبين الوصول إليه؛ فتزيا بزي بربري، وكتب على كتف شاة هذين البيتين، ووقف للوزير، وقال له: (أنا شاعر مفلق أريد (أن) أنشد الـملك هذا الشعر)؛ فضحك الوزير؛ وأراد (أي ابن هانئ) أن يطرف به الـملك؛ فأدخله عليه ليضحك منه؛ فأنشده قصيدته: (أليلتنا إذ أرسلت وارداً وحفا)؛ فقام إليه جعفر وعانقه، وعرف أنه ابن هانئ، وخلع عليه.
قال أبو عبدالرحمن: على أن الإمام ابن حزم تورط في الكذب الفني مراراً كما في قوله:
أغار عليك من إدراك طرفي
وأشفق أن يذيبك لـمس كفي
(طوق الحمامة /ضمن رسائل ابن حزم 1/ 234)
ولكنه في خاتمة كتابه (طوق الحمامة) 1/ 307 أبدى رأيه في الأكاذيب الفنية؛ فقال مخاطباً أحد أصدقائه الذي ألف من أجله طوق الحمامة: (ولم أمتنع أن أورد لك في هذه الرسالة أشياء يذكرها الشعراء، ويكثرون القول فيها موفيات على وجوهها، ومفردات في أبوابها، ومنعمات التفسير مثل الإفراط في صفة النحول، وتشبيه الدموع بالأمطار وأنها تروي السفار، وعدم النوم ألبتة، وانقطاع الغذاء جملةً. إلا أنها أشياء لا حقيقة لها، وكذب لا وجه له؛ ولكل شيء حد؛ وقد جعل الله لكل شيء قدراً. والنحول قد يعظم، ولو صار حيث يصفونه: لكان في قوام الذرة أو دونها، ولخرج عن حد المعقول. والسهر قد يتصل ليالي، ولكن لو عدم الغذاء أسبوعين لهلك؛ وإنما قلنا: (إن الصبر عن النوم أقل من الصبر عن الطعام)؛ لأن النوم غذاء الروح، والطعام غذاء الجسد، وإن كانا يشتركان في كليهما؛ ولكنا حكينا على الأغلب. وأما الماء فقد رأيت أن ميسوراً البناء جارنا بقرطبة يصبر عن الـماء أسبوعين في حمارة القيظ، ويكتفي بما في غذائه من رطوبة.. وحدثني أبوعبدالرحمن ابن جـحاف: أنه يعرف من كان لا يشرب الماء شهراً) .
 قال أبو عبدالرحمن: رؤية الإمام ابن حزم جاره (ميسور) رحمهما الله تعالى معدومة؛ وإنما صدقه فيما يقول. ومن المعاصرين الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى؛ فقد ذكر في كتابه (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة) 1/ -419 420: أنه لـم يأكل طعاماً، وأنه اكتفى بشرب الماء مدة أربعين يوماً؛ وإليكم ما قاله تنصيصاً: (لقد جوعت نفسي في أواخر سنة 1379هـ أربعين يوماً متتابعاً لم أذق في أثنائها طعاماً قط، ولم يدخل جوفي إلا الماء؛ وذلك طلباً للشفاء من بعض الأدواء؛ فعوفيت من بعضها دون بعض، وكنت قبل ذلك تداويت عند بعض الأطباء نحو عشر سنوات دون فائدة ظاهرة، وقد خرجت من التجويع المذكور بفائدتين ملموستين: الأولى استطاعة الإنسان تحمل الجوع تلك الـمدة الطويلة، خلافاً لظن الكثيرين من الناس (الصواب: كثير)، والأخرى أن الجوع يفيد في شفاء الأمراض الامتلائية كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى، وقد يفيد في غيرها أيضاً كما جرب كثيرون (الصواب: كثير)؛ ولكنه لا يفيد في جميع الأمراض على اختلاف الأجسام خلافاً لما يستفاد من كتاب (التطبيب بالصوم) لأحد الكتاب الأوروبيين؛ وفوق كل ذي علم عليم) .
 قال أبو عبدالرحمن: الله أعلم بحقيقة الحال، وقد قرأت ذلك على بعض الأطباء من زملائي في معية صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى؛ فاستبعده؛ وهو مـحال عندي وليس مـجرد مستبعد؛ لأن الصبر عن الطعام والماء أكثر مـما هو معهود في تجربة البشر: هو المحال نفسه؛ بل قد يصبر الإنسان عن الماء يومين أو ثلاثة أيام في الأكثر، ولا يصبر عن الطعام كل هذه المدة؛ ولو تصبر (وأنى له ذلك): لأصيب بالأمراض القواتل. وقال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى عن الصبر عن الماء لا عن الأكل: (حدثني القاضي أبو عبدالرحمن بن جحاف: أنه كان يعرف من كان لا يشرب الماء شهراً؛ وإنما اقتصرت في رسالتي على الحقائق الـمعلومة التي لا يمكن وجود سواها أصلاً. على أني قد أوردت من هذه الوجوه المذكورة أشياء كثيرةً يكتفى بها؛ لئلا أخرج عن طريقة أهل الشعر ومذهبهم. (طوق الحمامة /ضمن رسائل ابن حزم 1 /-307 308) ثم عاد أبو محمد في التقريب إلى تقسيم الشعر فنياً، ويبين أن الشاعرية جبلة، وليست كسباً؛ ليتقي قابلية الشاعرية التكليف الشرعي؛ إذ لا حكم للشرع فيمن ولد أعمى إلا أن يـحتسب إذا بلغ سن التكليف كما أن الـمبصر يشكر ربه.
 قال أبو عبدالرحمن: والشاعرية تشكر ولا تكفر، وتوظف فيما يرضي الله سبحانه وتعالى. ومـما تنبغي مراجعته كتاب أبي محمد ابن حزم (التقريب لحد الـمنطق والـمدخل إليه بالألفاظ العامية والأسئلة الفقهية) بدراستي وتقديمي، وتحقيق الشيخ عبدالحق بن ملا حقي التركماني/دار ابن حزم ببيروت/طبعتهم الأولى عام 1428هـ، وأنصح بقراءة دراستي ص -55 228؛ وأبو محمد لا يريد بالألفاظ العاميـة كلام العوام ذا اللحن في اللغة؛ وإنما يريد الـمفردات البريئة من اللحن ذات العموم. وانظر أيضاً كتاب (رسائل ابن حزم الأندلسي) جـمع أستاذي الدكتور الأستاذ إحسان عباس رحمهما الله تعالى 4 /356-355/ط المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت/طبعتهم الأولى عام 1983م .
قال أبو عبدالرحمن: قصيدة ابن هانئ الفائية التي مطلعها: (أليلتنا إذ أرسلت وارداً وحفا) من نوادر الدرر؛ وسألقي بعض الإضاءات على جمالها الفني بعد استيفائي كلام ابن حزم في هذا الموضوع في بعض المناسبات إن شاء الله تعالى. وقال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: (ولكنا نتكلم فيه (يعني الشعر) بمقدار ما يحسن فنقول: الشعر ينقسم ثلاثة أقسام: صناعة، وطبع، وبراعة. والطبع هو ما لم يقع فيه تكلف، وكان لفظه عامياً لا فضل فيه عن معناه. حتى لو أردت التعبير عن ذلك المعنى بمنثور لم تأت بأسهل ولا أخصر من ذلك اللفظ. ورب هذا الباب من المتقدمين جرير، ومن الـمحدثين الحسن (يعني أبا نواس). والبراعة هي التصرف في دقيق المعاني وبعيدها، والإكثار فيما لا عهد للناس بالقول فيه، وإصابة التشبيه، وتحسين المعنى اللطيف؛ ورب هذا الباب من المتقدمين امرؤ القيس، ومن الـمتأخرين علي بن العباس (ابن الرومي). وأشعار سائر الناس راجعة إلى الأقسام التي ذكرنا، ومركبة منها. وأما من أراد الـتمهر في أقسام الشعر ومختاره، وأفانين التصرف في محاسنه: فلينظر في كتاب قدامة بن جعفر في نقد الشعر، وفي كتب أبي علي الحاتمي؛ ففيها كفاية الكفاية والتوسع، والإيعاب لهذا المعنى. وكون المرء شاعراً ليس مكتسباً؛ لكنها جبلة. إلا أنه يقوي صاحبها بالتوسع في قراءة الأشعار وتدبرها). (التقريب 623 624-)
قال أبو عبدالرحمن: القيمة الدينية هي المعيار فيما نعتقده ونقوله ونمارسه؛ لأننا عبيد الله، وخلقه، وملكه؛ ونحن مستخلفون فيما قدره الله لنا ربنا كوناً وشرعاً من ملكه وخلقه؛ فلا حرية لنا إلا ما أذن له به سيدنا وخالقنا ومالكنا جل جلاله؛ وعبوديتنا لربنا شرف لنا؛ وهو شرف يلزم عنه أن عبوديـتنا لغيره حطة، وذلة ومنقصة. وقد أبحرت في مسائل الجمال الفني تعريفاً، وإحساساً، ومعرفة، وتمثيلاً، وتطريباً؛ وأغلب البشر مدفوعون إلى عشق الجمال إبداعاً، واستمتاعاً بميولنا وسجايانا؛ فوجب أن نلتمس حكم الشرع في قضايا الجمال حتى لا نتجاوز المقدار المأذون به لنا من حرية الـممارسة للجمال إحساساً، وتلذذاً، وتوظيفاً؛ ولما عزمت على تحقيق هذه المطالب وجدت للإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى فصلاً عن الجمال، وفصلاً آخر عن آثار الجمال من اللذة والسرور؛ وقد بحث فيهما الحكم الشرعي؛ فجعلت هذين الفصلين أساساً لعموم الجمال إحساساً وتوظيفاً؛ وبما أن كلام ابن تيمية لم يكن عن الجمال قصداً؛ وإنما جاء رداً على الصوفية؛ وبما أن ابن تيمية لا يعتني بالأداء جمالاً ووضوحاً؛ لحصول غموض كثير في أكثر ما كتبه: فقد أحوج ضبط كلامه إلى تعليقات كثيرة، وإلى مداخلات أكثر في الحواشي، وفي المتن عقب سياقي كلامه، وبما أن بحثي الآن عن جمال الفن الشعري: فقد عقدت هذه التبريحة عن الفن الشعري، والتطريب به؛ وأما حكم الشعر فقد تناولته في بحث لي سبق نشره منذ أعوام بعنوان (شيء من التباريح)، وأورده الآن باختصار وتهذيب وإضافة؛ فأما التطريب فذلك أكبر وظائف الشعر وأظهرها؛ وهو باب فقهي واعتقادي واسع، وأبدأ بتحقيق كلام ابن تيمية عن حكم السماع (وهو مناقشة للصوفيـة)، والتعليقـات على نصه رحمه الله تعالى. ومداخلته بالتعقيب والاستدراك: ضربة لازب للأسباب التي أسلفتها عند كلامي عن فصليه اللذين كتبهما في الجمال واللذة؛ وهو ضربة لازب من أجل بيان اختياري اجتهاداً لا تقليداً؛ وهذه المسألة أُلِّفتْ فيها كتـب لا تـزال مفقودةً كـكتاب عبدالملك بن حبيـب، وكتاب (ذم الغناء، والمنع منه) لأبي الطيب الطبري الشافعي. ومن الكتب التي لا تزال مخطوطةً كتاب (الإمتاع) للأدفوي؛ وهو أجمعها وأمتعها، وكتاب سيف ابن قدامة الذي يوجد مخطوطاً ملخصه للذهبي، وجزء في السماع للسلمي. ومن الكتب الـمطبوعة (رسالة ابن حزم)، وكتاب (السماع) لابن القيسراني، و(ذم الملاهي) لابن أبي الدنيا، و(بوارق الإلماع) لأبي الفتوح أحمد بن محمد الغزالي، و(السماع والرقص) لابن تيمية، و(كف الرعاع) لابن حجر الهيتمي، و(إيضاح الدلالات) لعبدالغني النابلسي، و(رسالة في السماع والوجد) لأبي سعيد ابن الأعرابي، و(كشف القناع عن حكم الوجد والسماع) لأبي العباس أحمد بن عمر الأندلسي، و(رسالة للشوكاني)، و(ذم الشبابة) لابن قدامة؛ وقد طبع بتحقيقي، و(رسالة في السماع) لابن رجب.
قال أبو عبدالرحمن: هذه المسألة بحثها الفقهاء في كتبهم كما بحثها أهل التصوف والسلوك مثل كتاب (إحياء علوم الدين) للغزالي، و(عوارف المعارف) للسهروردي، و(قوت القلوب) لأبي طالب، وعقد له ابن قيم الجوزية فصلاً في (إغاثة اللهفان). ومن معاناتي صعوبة تحديد معنى الجمال بتعريف جامع مانع، ومن طول معاناتي هذه الـمسألة عدداً من السنوات: اتضح لي أن الأصل في حقيقة الجمال بمعناه الوضعي اللغوي ما تأتى عن حاسة البصر من الصور والـمرئيات؛ فالجمال موضوع لشيئين ليس أحدهما أولى من الآخر: الأول ما حصل من المرئـي من بهجة ولذة وسرور ورضًا في القلب؛ وهذا الحاصل مـجرد من النفع والغاية والشهوة؛ فهو التذاذ قلبي بهذا الـمرئـي وحسب. والثاني صفات في الـمرئـي عرف باستقرائها واستقراء أضدادها، وباستقراء القلوب المتذوقة: أنـها هي باعث اللـذة القلبية؛ إذن الجمال لغةً للصفات في الـموضوع، وللانطباعات في النفس. ولو اتفقـت كل القلوب على الالتـذاذ بجميل ما: لكانت صفات ما هو جميل ثابتةً. بيد أن إحساس القلوب مختلف وفقاً للدين والـمذهب والثقافة والتربية والمزاج؛ إذن الجمال وجداناً نسبياً، والجمال حكماً.
قال أبوعبدالرحمن: في بحوثي عن تحرير نظرية الإحساس الجمالي، وارتباطها بالمعرفة والعلم: بينت أن كل جمال لذة، وليس كل لذة جمالاً؛ بل الجمال خصوص لذة؛ وهو لذة القلب وسروره بمرئي أو مسموع. وأما ما كان بالحاسة كالـمذوق باللسان، أو الملموس باليد، أو ما لامسه الجلد كالنسيم العليل الـمنعش النفس، أو مداخلة العضو شيئًا آخر يلتذ به كتداخل الأعضاء في مسألة (الباءة): فذلك كله شهوات ولذات آنية منطفئة بإشباع الدافع؛ وليس كل لذة عن ملامسة تكون جميلةً؛ بل منها شهوات مستقبحه بمعياري الحق والخير؛ فالجمال حقيقةً هو ما حصل عن إحساس نظر أو سمع، ثم ما ترتب عليه من لذة فكرية كلذة الخيال. والـمتخيل تركيب وليد لا نملك نفيه من الوجود، كما لا نملك إثبات وجوده؛ لأننا لا نحيط بالموجودات في كون الله. إلا أن هذا التركيب بإبداع الخيال محال أن يتم إلا بتصور أجزائه الموجودة التي هي تحت إدراكنا معرفةً وعلماً؛ فالتخيل والخيال في النص الأدبي: اختلاق صور لم يشهدها الحس بذلك التركيب؛ وإنما كانت صور أجزائها مـما جرده العقل من إدراك الحس، واحتفظت به الذاكرة. ثم إن تلك الصورة المركبة قد تكون معقولةً؛ بمعنى أن العقل لا يستبعد وقوعها في الخارج كما في الأدب الواقعي من تخيل أحداث صادرة عن أشخاص متخيلين من أهل المواهب والغباء في أماكن متخيلة، ومثل هذا المتخيل يقع أمثاله في حياة البشر. ومن التخيل ما يستبعد العقل وقوعه، ومنه ما لا يكون مستبعداً. ومثال ما هو مستبعد: أن يكون المتخيل في زمن غابر أحاط به التاريخ استقراءً: فلم يجد فيه مكاناً لأحداث ذلك التخيل كرواية عن العصر الجاهلي عن قوم في سنة مجدبة ألهموا صلاة استسقاء شرعية قبل نزول الشرع، ونسجوا في حوارهم نسيجاً من المعاني والابتهالات التي لم تعرف إلا بعد نزول الشرع؛ فأغيثوا، ورؤوا أشخاصاً علوية، وأينعت الأرض قبل الأوان المعتاد، وكثر الضأن والماعز والإبل بالتناسل، وامتلأ الضرع قبل الأوان، وكانت الحبكة عجائبية باهرة؛ فهذه لذة خيالية جمالية، ولكن العقل يستبعد وقوعها في ذلك الزمان، وهي خلاف مجرى العادة؛ فإن لم يكن وراء هذا الخيال العجائبي رمز معقول دال: فإن جمال الخيال يتضاءل؛ فيكون بارداً تذهب متعته بالتدريج؛ فيصبح لغواً لا لذة فيه.
قال أبو عبدالرحمن: ذهب كل من (كولردج) و(وردزورث) وغيرهما إلى أن الفن أثر من آثار الخيال؛ ومن الفن الشعر. ومعيار صحة هذا الرأي أو بطلانه: أن يوجد نص شعري معتد به جمالياً وهو مجرد إلا من عناصر الخيال. وجمهور النقاد يقيدون مفهوم الخيال بأنه ما صدر عن وعي عقلي ليس كخيالات النائم، وأن تكون تأليفية الخيال وتركيبيته غير مستبعدة، وأن تكون دالةً. وفئة ثانية (كما في كتاب كولردج لمحمد مصطفى بدوي ص 48 – 49 / طبع بالقاهرة سنة 1958م): ألغت قيمة الخيال في الفنون الجمالية بإطلاق من أمثال (جونسون) و(ديكارت) و(هوبز) و(دريدن)؛ فالخيال عندهم مملكة فوضوية، وهو أم الجنون والأحلام والأوهام والحمى. وكاد ينحصر مجال الخيال لدى الكلاسيكيين في التعبير المجازي، والصور الحسية الجزئية! مع أن التعبير المجازي إذا كان مأثوراً فحكمه أنه من المسكوكات؛ فيكون لا فضل فيه لموهبة الأديب. وكون التركيبة الخيالية دالةً: شرط يباركه أمثال (وليم بليك) الذي يعد الخيال رؤيةً مقدسة، والفيلسوف (فشته) الذي قيد الخيال بوصف المنتج، والفيلسوف (شيلنج) الذي رأى الخيال فنياً الوسيلة الأولى لإدراك أي حقيقة، و(كيتس) الذي يرى الخيال قوةً قادرةً على بلوغ الحقيقة القصوى، و(شيللي) الذي مايز بين الخيال والعقل ممايزةً توحي بأن الخيال هو مصدر المعرفة في الفن. قال: إن العقل يحترم الفروق بين الأشياء بينما يحترم الخيال مواضع الشبه فيها كما في كتاب (فلسفة الجمال في الفكر المعاصر ص 77)، ومن مصادره (دفاع عن الشعر)؛ وهو مقالة لـ (شيللي) .
قال أبو عبدالرحمن: العقل يريد الحقيقة كما هي في الواقع؛ فيحدد هويتها بالفوارق؛ وأما الخيال (وهو من قوى العقل) فيجنح إلى المضاهاة الفنية لـما في الواقع من مشابهة ومقاربةً؛ من أجل إحداث عوالم فنية لها دلالتها على الحقائق؛ فيقيم عوالمه الخيالية بأوجه الشبه بين الأعيان الواقعية. ولي تحفظ في دعوى أن الخيال مصدر للمعرفة إذا فسرت هذه المعرفة على مذهب (كولردج) الذي يرى أن الإنسان يتجاوز بالخيال عالـم الظواهر؛ فيدرك كنه حقائق مغيبة؛ لأن من تلك المغيبات ما يتعلق بصفات ربنا سبحانه وتعالى؛ ولأن المغيب عن حس الأديب قد يكون من جنس عالـم الظواهر، وقد يكون من غير جنسه. إن لبن أهل الجنة، وزقوم أهل النار ليسا من جنس عالـم الظواهر. وربنا سبحانه وتعالى لا مثل له ولا شبيه ولا ند؛ إذن كيف يدرك الخيال حقيقة ما وراء عالـم الظواهر من غير جنسها ومادته من عالـم الظواهر نفسه، بل الواقع أن الخيال ينطلق من معرفة أجزاء محسوسة، ومن علم بالعلاقات والفوارق بينها، ومن علم بالمغيب: بمشاهدة آثاره، أو بخبر تواتري، أو خبر شرع معصوم؛ ويكون علمه وصفاً تقريبياً؛ فتنتهي لذة الخيال إلى رمز دال على المثال الأعلى للجمال، أو في منتهى القبح. وتكون دلالته عبرةً لإصلاح الواقع بعد إحساس المتلقي بما رمز إليه الخيال من جمال أو قبح؛ فهذا هو الجمال الخيالي الخالد. ألا ترى أن علمنا بما وراء عالـم الظواهر وصف مقارب غير مطابق لما هو من عالم الظواهر؛ وإنما تكون المطابقة بالإحالة إلى ما لا يقبل إضافة ولا سلباً كعلمنا بأن الله هو الواحد الأحد في الكمال المطلق والتنزه المطلق، ولا نحيط بتحديد كيفيته بتشبيه أو كم من خلال ما شاهدناه من بعض ظواهر الكون؛ وأما العلم بوصفه مطابقةً كما هو في الغيب فذلك علم صحيح. مثال ذلك علمنا بأن عظمة الكون صادرة عن خالق أعظم جاءت صفاته بالوصف من الخبر الشرعي الصحيح؛ وهو وصف لم يعتمد التشبيه والتكييف والتحديد؛ وإنما أحال إلى الغاية في الوصف كالعلم بأن لله مطلق الحكمة؛ فيظل العقل (ودعك من الخيال) بكل حيله الفكرية والخيالية قاصراً عن إدراك الحكمة بوصف مطابق؛ وإنما يملك المطابقة بالعلم بأن لله الـمـثل الأعلى لا يشبهه شيء؛ فنظل على الإيمان مثلاً بأن حكمة الله في منتهى الكمال الذي لا يقبل إضافةً، وفي منتهى التنزيه الذي لا يقبل سلباً. وأما ما غاب عن حس الأديب وهو من جنس عالـم الظواهر إذا لم يدرك العقل وقوعه: فهو من الـمحتمل؛ فقد يقع كما تخيله الأديب، وقد يكون مما وقع ولم يعلم به الأديب؛ وإنما تخيله. وسواء أوقع في الماضي أم في المستقبل: فلا يكون تخيل الأديب معرفةً؛ بل هو محتمل، ووقوعه مصادفةً. والمتخيل المحتمل إذا تحقق شرطه يقع؛ ولهذا حديث يأتي كما في قصة (سلمون). والخيال ليس قاصراً على التأليفية التركيبية من عناصر واقعية؛ بل قد يكون جزئياً بأن تتخيل عينةً واقعية، أو تتخيل صفاتها أو آثارها مركبةً بغير ما هي معهودة عليه في الواقع، والعقل لا يحيل تصورها كما تخيلها الأديب مثل مسرحية (الملك لير) لشكسبير؛ ففي هذه المسرحية نجد أن الألم العميق الذي يـحس به الأب جعله ينشر الإحساس بالعقوق ونكران الجميل حتى شمل العناصر الطبيعية نفسها. وقد ضرب (كولردج) المثال بهذه المسرحية في تعريفه الخيال. وخلع الانفعالات على الجوامد كثير في مجازات الأدباء. وأما في مذهب الجمال الواقعي فقد ضرب الأستاذ مجاهد المثال بقصة واقعية شاهداً للجدلية في التنظير الأدبي للأديب الماركسي (لوكاتش). قال: (إن قصة (بدر نشأت)؛ وهي (سلمون) في مجموعته القصصية (حلم ليلة تعب) يمكن أن تصور ما يقصده (لوكاتش).. إن بطل القصة قد أغضب زوجته؛ فتركت له البيت إلى أهلها، وفي اليوم الثاني حمل معه علبة سلمون وخبزاً وزيتوناً؛ لكي يتناول طعام غدائه، وأثناء الأكل أخذ يقرأ في الصحيفة عن اكتشاف إشعاع ذري في بحر اليابان، وأن الأسماك تلوثت بالإشعاع؛ فتوقف عن الأكل، وقرأ على علبة السلمون: (إنها صنعت في اليابان)؛ فشعر بانقباض ولم يواصل، وشعر بوحشة شديدة وخوف خشية أن يأكل أولاده السلمون ذا الإشعاع الذري؛ فقرر أن يصالح زوجته. إن المشكلة الخاصة عنده أوصلته إلى المشكلة العامة؛ وهذه المشكلة العامة أرجعته إلى مشكلته الخاصة ولكن في ضوء جديد. إن الإنسان لا يستطيع أن يكون وحيداً، وإنه ينكشف جوهره (الذي هو التضامن البشري). وعلى هذا نجد (لوكاتش) يقول في كتابه (دراسات في الواقعية): إن أساس الأدب العظيم هو العالـم المشترك للناس؛ وهو الإيقاظ الذي تحدث عنه (هيرقليطس)؛ وبدون وعي يقظ للواقع لا يمكن أن تصاغ أية (الصواب أي) سيماء فكرية؛ وبدون سيماء فكرية لا تنهض أية (الصواب: أي) شخصية أدبية إلى المستوى الذي به تسمو في حيوية تامة للفردية على الصدفة (الصواب: المصادفة) البليدة للواقع اليومي، وترتقي إلى الرتبة المثالية فعلاً).
وإلى لقاء عاجل قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.

ذو صلة