بداية شهر يونيو من هذا العام أسلم خوان غويتسلو روحه بمدينة مراكش الحمراء، بعدما عاش لأزيد من ثمانية عقود، كان حصادها إرثاً إبداعياً ضم عشرات الروايات وعدة مؤلفات وكتب. إلى جانبها ترك أمراً مهماً ميزه عن رفاقه في قبيلة المثقفين، ترك الراحل سيرة مثقف لم يهادن الديكتاتورية، ولم يرفع الراية البيضاء أمام العنصرية، ولم يتعايش مع المركزية الغربية، ولم يهضم القومية المتعصبة التي تزرع الكراهية والحرب بين بني البشر.
عادة ما يبدأ كبار المثقفين في الهوامش راديكاليين قبل أن ينتهي بهم المطاف على موائد السلطة محافظين، ابن برشلونة خالف هذا المسار، فالجراح غير المندملة التي ورثها في طفولته حولته لشاب معذّب، عاش حياة الحرب والقهر، تذوق فيها مرارة الاغتراب عن الخاص والعام، حتى تفجر دم الكتابة فيه مبكراً، -ربما أبكر مما يجب حسب أصدقائه- ما جعله يغرد خارج السرب العائلي والوطني والقومي.
اختيار ومنهج لم يحد عنهما هذا المثقف النبيل إلى آخر أيام حياته، فحتى في مقام التتويج -جائزة سيرفانتس- لم يبدل خوان قناعاته تماشياً مع الرسميات والطقوس المتوافقة مع المناسبة، ويحكي أن ربطة العنق الوحيدة التي يملكها، وارتداها للحفلة تعود لنحو 35 عاماً مضت. كما لم يؤثر حضور الملك فليبي وعقيلته في لهجة خطابه، حيث اعتبر أقصر وأقسى خطاب في تاريخ الجائزة، خطاب مختزل ومكثف في أربع صفحات مأهولة بألف وثلاثمئة كلمة كاشفة للتمرد الذي رافق الكاتب طوال حياته.
آمن الراحل بمقولة (العالم بيت من لا بيت له)، وتحول جراء ذلك في باريس إلى لاجئ ثقافي ثم لاجئ سياسي، دون أن يوقف معركته ضد نظام فرانكو، حيث ظل شوكة في حلق هذا النظام العسكري وحليفته الكبرى الكنيسة الكاثوليكية، التي أطلقت على حرب فرانكو ضد أهله الإسبان الحرب المقدسة.
تجربة جعلت هذا الثوري قولاً وفعلاً ينحاز في مسار حياته للقضايا الإنسانية العادلة، ويتبنى معاناة الفئات المسحوقة التي تواجه ويلات القهر وجبروت الظلم. وهكذا نجده يدافع عن الشعب الفلسطيني مثلما دافع عن الشعب الجزائري في معركة تحرره من الاستعمار، وهو لاجئ سياسي في فرنسا البلد المستعمر، وشعب البوسنة والهرسك وشعب الشيشان، كما كان سباقاً إلى تسجيل مواقف مؤيدة لمعظم الحركات التحررية في العالم.
موقف جعله يرفض عرضاً من وزير الثقافة الفرنسي السابق، جاك لانغ، لمنحه وسام الشرف الفرنسي، بدعوى أن مسؤولين فرنسيين نالوا هذا الوسام، ساهموا في ذبح الجزائريين والمغاربة والفيتناميين وسكان مدغشقر، معلقاً على ذلك بقوله: (شرفهم ليس شرفي).
تعد العنصرية والكراهية إحدى المعارك التي لا يعرف فيها الراحل سبيلاً للمهادنة، وقد دفع مقابل مواقفه تلك ثمناً باهضاً دون أن يتراجع أو يستسلم. وكتب عن ذلك مبكراً، حيث نجده يقول في (تأمل حفلة الأباطيل من خارج الحلبة) أحد نصوصه العائدة إلى زمن التسعينات: (لقد عششت الهمجية في نطاقنا النقي والمحايد وتعايشنا معها. هل تعني شيئاً للأوروقراطي فظائع كل من البوسنة والشيشان ورواندا؟ لا مبالاتُنا حيال مصيبة الغير، ولو كانت مصيبة معيّنة وملموسة للغاية؛ لا تختلف عن اللامبالاة الخاصة بقرية نمل).
ويضيف في ذات النص: (نحيا، مثلما أشار بودريار، ضمن نظام عالمي أناني، لا قيم له، مستغرقين في ثقافة مظاهر ليست في الحقيقة سوى ثقافة فراغ. هيمنة الحضور الإعلامي تجعله مبتذلاً وتفسده. نطلع على كل الأحداث ولا يمسنا أيّ منها. وهناك يتموقع الأخ الأكبر، الذي كان جورج أورويل قد تنبأ بمجيئه، ساهراً بعناية على هذه الغفلة والكسل ويعبّئ قواه الجبارة لإبقائنا جامدين، فاقدي الإحساس، متجاهِلين).
مثلما شق خوان عصا الطاعة على الساسة، سيشقها على نخبة إسبانيا الديمقراطية المهرولة للانضمام إلى الوحدة الأوروبية، فعندما كتب المؤرخ الإسباني الكبير كلوديو سانشيز ألبورنوز يقول بأن: (ثقافة الأندلس دمرتها سُحب الجراد الأفريقي)، وهو يقصد الموحدين والمرابطين، أجابه غويتيسولو في كتابه (إسبانيا في مواجهة التاريخ فك العقد) بقوله: (هل نسي كلاوديو سانشيز أن هذا الجراد هو من شيّد (الخيرالدة) في إشبيلية، وقصور مملكة غرناطة، وأن ابن رشد عاش في هذه المرحلة، وأن (سُحب الجراد الأفريقي) هي التي أسهمت في وصول إسبانيا إلى المكانة العالية على مستوى عائدات السياحة، ومع ذلك يتجنى بعض المؤرخين وغيرهم على التاريخ، محاولين طمس معالم 800 سنة من الوجود العربي الإسلامي بالأندلس أو إسبانيا الإسلامية).
على المستوى الأدبي يميز خوان في مساره الإبداعي بين مرحلتين، تعد رواية (علامات هوية)، كان عنوانها الأصلي هو (الأفضل التدمير والنار) المحظورة في بلده حتى وفاة فرانكو؛ منعطفاً حاسماً في سيرة الرجل. يقول غويتيسولو: (ولدت رواية علامات هوية من عدم الرضا عن أعمالي الخاصة السابقة، في أعمالي الأولى كنت قد أدّيت واجبي كمواطن، لكني لم أقم بواجبي ككاتب: أن تمنح للأدب شيئاً آخر مغايراً لما نلته. دون فكرة الجِدّة ليس ثمة عمل حقيقي، وأنا حتى ذلك الحين لم أكن قد كسرت القوالب الأدبية الجاهزة).
يعود آخر عمل إبداعي للراحل إلى ست سنوات خلت، وهو رواية بعنوان: (المنفي هنا وهناك)، عمل سيعقبه فيما بعد إصدار دراسات نقدية كان قد خص بها صديقه الراحل الشاعر خوسيه أنخيل بالينتي، أحد الأصوات المتمردة ضمن الجيل الشعري الخمسيني. ويحرص الراحل على التميز حتى بعد وفاته، حيث ترك بين يدي وكيلته كارمن بالسيلس عملاً أوصى بنشره عشر سنوات بعد موته.
يرحل خوان في شموخ وكبرياء تاركاً رسالته الإنسانية لمن يتقاسمها معه، ومنهم العرب الذين حمل همومهم وناصر قضاياهم. غير أن المأسوف عليه ضمور الاهتمام بأعمال هذا الرجل، وتحديداً منها الروائية التي تبلغ 13 رواية لم تترجم منها للغة العربية سوى ثلاث روايات فقط. تبقى الكرة الآن لدى دور النشر كي تبادر إلى ترجمة أعمال الراحل الذي أودعنا درسه الإنساني العالي، ومضى.