مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

الثنائي أدريان موندوت وكلير باردين.. المسرح وتفاعل الجسد مع أحدث التقنيات الرقمية

يعتبر الجسد لغة بصرية، حيث احتل مكانة مهمة في جميع الفنون، سواء أكان في الفن التشكيلي أم السينما أو التمثيل أو المسرح. ومنذ ظهور الثورة التكنولوجية التي أنتجت لنا ما يسمى بالرقمي؛ أصبحنا نتحدث بشكل دائم عن جدلية الجسد والفن الرقمي، إذ يعتبر الجسد جوهر العمل الفني، والفن الرقمي بمثابة الوسيلة التي تساعد الفنان على الإبداع الديناميكي، ومن هنا يمكننا الحديث عن تفاعل الجسد مع التقنيات الرقمية في فن المسرح، فالمسرح لم يعد ذلك المتعارف عليه والمتمثل في استعمال كل ما هو اعتيادي، واستبدل الديكور الواقعي الذي فيه إمكانات بسيطة بديكور افتراضي مصمم بتقنيات رقمية.
فالثنائي (أدريان موندوت وكلير باردين)، خلقا في أعمالهما المسرحية، تفاعلاً بين حركة الجسد وبين الأشكال الرقمية المصممة بواسطة الحاسوب، هذا التحدي القائم بين الجسد والتكنولوجيا لا يمكن أن ينتج لنا إلا جمالية حديثة تحاكي عصرنا، حيث يقوم الثنائي في أعمالهما برحلة في عالم افتراضي تتداخل فيه حركات الجسد مع أشكال وألوان ومواضيع ومفاهيم افتراضية، (فالافتراضي يعني كل ما يتعارض مع ماهو حقيقي، وبذلك يمكن اعتباره اصطناعياً. في العالم الرقمي يعني المصطلح كل شيء تم تصميمه بواسطة الحاسوب. مع ذلك تملك هذه التصميمات أو هذه الحيل وجوداً يقودنا بشكل متناقض إلى التحدث عن حقيقة افتراضية على غرار العوالم الخيالية. وهذه العميلة تتم في واقع ثلاثي الأبعاد يتكون من طول وعرض وعمق).
فالتقنية الرقمية هي المكون الأساس للعرض المسرحي الرقمي، وهدفها هو التأثير البصري والحسي لدى المشاهد، إذ يتفاعل المشاهد مع هذه النوعية من الفنون، وذلك نظراً لما تحمله هذه التقنية في طياتها من مستوى عال في الجودة والإبداع، لدرجة أن المشاهد ينغمس كلياً، روحاً وجسداً وتفكيراً في هذا الفن الافتراضي، ومن خصائص الافتراضي اختزال الزمان والمكان والحدث. وحتى الصورة في حد ذاتها أصبحت افتراضية، فيشكل لنا الثنائي في أعمالهما صورة افتراضية بالوسيط الرقمي، ومن ثم يقوم كل منهما بالتفاعل معها وكأنها قطعة لا يمكن الاستغناء عنها، ولعل هذا ما نجده واضحاً في هذا العمل:
عنوان العمل: HAKANAI
تصميم: Adrien Mondot & Claire Bardainne
رقص: Akiko Kajihara
اسم العمل الفني مستوحي من اسم ياباني (هاكناي)، ويعني الشيء الهش أو غير الدائم والانتقال بين الحلم والواقع، وهذا ما حاول الثنائي تجسيده في هذا العمل، وأول ما نشاهده في هذا العمل وجود مكعب يحتوي على صورة متحركة فيها خطوط أفقية وأخرى عمودية باللون الأبيض والأسود، مكونة بذلك مربعات صغيرة، حيث يتفاعل الفنان مع عمله الفني مستعملاً في ذلك جسده وحواسه، جسده الذي طوعه وفق حركة المكعب، فنرى الراقصة في تناغم كلي مع حركات المكعب، فيتم تحريك الصورة وفقاً لتحركات الجسد وإلى إيقاع الموسيقى، فتواجه الراقصة في هذا العمل حواراً وتفاعلاً بين جسد واقعي وصورة افتراضية تمت صناعتها عن طريق الوسيط الإلكتروني مخرجة لنا صورة حديثة تحاكي ما يدور بخيال الفنان المليء بكل خصائص التكنولوجيا.
وهذا الخلق الجديد من (أدريان موندوت وكلير باردين) هو خلق لعالم خيالي عن طريق الحاسوب الذي منح الصورة أكثر خلقاً وأكثر حركة (وبما أن الصورة كما نرى، ليست أبداً موضوعية، ولا تكتفي بإعادة إنتاج الواقع كما هو، فهي بالتالي تفرض على مستهلكيها حمولتها كيفما كانت، وتوجهه تبعاً لرغباتها، تأسره وتحاصره، لينقلب معنى الفرحة رأساً على عقب، بحيث تصبح هذه الأخيرة من طرفين لا من طرف واحد، ذلك أن الصورة المتحركة أصبحت تتوافر على أعين خفية تسمح لها بمراقبة كائن أصبح ساكناً في مكانه ننتظر قدومها البهي معتقداً الاستمتاع بها)، ومن هنا يصبح المستحيل ممكناً في هذا المكعب، والثابت متحركاً، والجامد مرناً، والصلب يصبح سائلاً، هو في الحقيقة تخطٍّ لكل الحدود الزمانية والمكانية، حتى الفضاء وهو أهم شيء في العمل الفني بالنسبة للثنائي، يصبح الفضاء افتراضياً وهو ما يستدعي منا الوقوف في هذه النقطة، هذا الفضاء الذي سعى الثنائي إلى إبداعه والابتعاد به كلياً عن الواقع، فالفضاء الافتراضي يتسم بمتاهات رقمية عابرة للحدود، إضافة إلى أنه يتسم بمستوى ذكاء خارق، مما أدى إلى ظهور عالم جديد سمي بالعالم الرقمي الافتراضي، وانفتح على نوعية جديدة في العلاقة بين الفنان وبين ما ينتجه من فن، هي علاقة غير مسبوقة مبنية بالأساس على التفاعل، أي تفاعل الجسد مع كل جزء وكل خاصية في العمل الفني، فنجد الفنان يلامس العمل الفني بيده وكأنه بذلك يريد أن يقيم علاقة استثنائية بفنه، إضافة إلى هذا لا يقتصر فقط على نفسه وإنما المتلقي في حد ذاته يكون حاضراً أثناء ولادة العملية الإبداعية، وهذا ما نلاحظه في هذا العمل.
عنوان العمل: XYZT - Les paysages abstraits
تصميم: Adrien Mondot & Claire Bardainne
أول ما نشاهده في هذا العمل هو وجود أربعة أحرف تترجم وجود لغة رياضية: (X) تعني (أفقي)، و(Y) تعني (رأسي)، و(Z) تعني (العمق)، و(T) تعني (الوقت). وهذه الحروف استعملها الثنائي لخلق حركة في الفضاء، وهذا الفضاء هو عبارة عن طبيعة تجريدية، وإذا دققنا جيداً في هذا العمل نجد أن هذه الحروف تنتمي إلى معجم الطبيعة، هذه الطبيعة التي اخترقها الثنائي عن طريق الجسد، هو عبور للطبيعة، وكأن بالثنائي يريد منا إعادة النظر في مكونات الطبيعة، إضافة إلى هذا يكون المتلقي عنصراً فعالاً في العمل الفني، فيلاحظ كل التفاصيل، حيث يتمتع بتجربة حسية عن طريق الجسد، فيكون متفاعلاً مع ضوء المناظر الطبيعية المتكونة من الخطوط والنقاط والحروف، وبالتالي متفاعلاً مع التقنية الرقمية المكونة للعمل الفني، فهو انسجام مع مادة افتراضية نابضة بالحياة وبإبداعات حركية، في الحقيقة هذه المادة الافتراضية ليست دائمة وإنما سريعة الزوال، وبالرغم من أنها وقتية إلا أن فيها من الجمال لذة تجعل من الجسد محورها الرئيس. فإحساس المتلقي في هذا العمل الفني هو إحساس بمكان وزمان وفضاء جديد، حيث يرتبط عقلياً وجسدياً بعالم افتراضي وبمادة رقمية.
وبالتالي احتل الجسد دوراً مهماً تحويرياً في هذه النوعية من الأعمال الفنية، فعبر من خلاله المبدع عن روعة في الإبداع، (فشكل الجسد عاملاً مهماً من عوامل الخطاب الإنساني منذ أقدم الأزمنة، ولم يكن أداة للقراءة وإبطال المفاهيم بين أبناء الجنس البشري فحسب، بل إنه كان مصدر ديمومة الحياة والتفاعل معها بشكل إيجابي وبمظاهر شتى، فمرة يكون مظهراً من مظاهر كسب العيش الإنساني وتارة عنصراً مهماً من عناصر التفاوض مع الطبيعة والتآلف معها، وبشكل آخر يكون تعبيراً إنسانياً عما يختلج في نفس الإنسان من فرح وحزن)، ولا مجال للشك في دور الجسد وما له من أهمية، خصوصاً إذا تحدثنا في علاقته بالفنون، فهو المحور الأساس للعملية الإبداعية، فجسد الراقص في الأعمال الفنية الرقمية بمثابة نقطة التقاء كل الأشكال الرقمية وبداية تحاور مع الرقمية مما أنتج لنا تشكيلاً مسرحياً أساسه علاقة تفاعل وتبادل بين الجسد وبين أحدث التقنيات التكنولوجية، (فكل الكلمات وكل المعاني وكل الأفكار تذهب إلى داخل الجسد وتولد مرئية من جديد. شيء غريب أن تظل حبيساً للجسد، إنه كتصليب لكل منا. نتحرر من ذلك بالكلمة التي تخلصنا)، ونتحرر أيضاً بإصرار منا على ابتكار الجديد فيصبح الجسد في عمق العملية الإبداعية ذا نظام إيقاعي، ومما لا شك فيه أن الجسد في هذا الفضاء المسرحي يجد حرية مطلقة، هو في الحقيقة مكان للتمرد على كل القوانين التي تكبل الجسد.
إضافة إلى ذلك لا ننسى الدور الكبير للفضاء الرقمي والذي يجعلنا نفكر في صور لا وجود لها، وبالرغم من أنها غير موجودة إلا أننا نتفاعل معها، هذا الفضاء يساعدنا على تخطي الصورة المتعارف عليها، والتي يكون فيها المتلقي، أولاً متفاعلاً معها، وثانياً منفتحاً عليها وعلى كل خصائصها، هو في الحقيقة فضاء للتمرد، مما يفتح أمامنا تجويفاً خيالياً. وتمرد الجسد لدرجة أنه يتفاعل مع أشكال وحركات غير موجود فيعبر بذلك (الراقص المسرحي) عما يجيش بنفسه (فالمسرح يحول الجسد إلى آلة موسيقية تحتاج أولاً إلى ضبط الأوتار ثم إلى التدريب قبل الأداء والتعبير معاً، فلغة الجسد تحتاج إلى تركيز لا يقل في درجته على لغة اللسان).
وبالتالي فإن ظهور التقنيات الرقمية في المسرح قد شكل عهداً جديداً، وبخاصة في مجال الصورة التي فيها من الجمال ما يشد الناظر إليها، وكذلك في حركة الجسد مع هذه الرقمية، وهذا ما يدل على دخول ثقافة بصرية جديدة اكتسحت كل المجالات خصوصاً في الفن الذي صار بعيداً كل البعد عن كل ما هو اعتيادي وتقليدي، ومن خلال (إبداع التقنية الرقمية) يقوم الجسد بعمليات توليفية بين ما هو محسوس وهو الجسد وبين ما هو افتراضي وهو ما جاءت به التكنولوجيا الرقمية، مما يستدعي إنشائية جمالية حديثة تحاكي روح الفنان المبدع الذي نجده دائماً في بحث مستمر عن وسائل جديدة يستطيع من خلالها من التعبير عما يجول بخاطره.
والتقنية الرقمية لا تقلل من قيمة الجسد بتشيئته؛ وإنما تجعل منه أساساً للإبداع ومحوراً رئيساً في العمل الفني، وتخلق علاقة جدلية بين الجسد وبين التكنولوجيا، وفي الأصل يستفيد منها الجسد بشكل كامل ولا يقتصر على هذا فقط وإنما يتفاعل معها. فالثنائي (أدريان موندوت وكلير باردين) لم يضعا قطيعة بين الجسد وبين التقنية، وإنما هما مكملان لبعضهما البعض، ولا تستجيب العملية الإبداعية إلا بحضورهما، ولتنتقل هذه الأخيرة من المادي إلى الافتراضي، والافتراضي لا يعني بالضرورة اللاواقعي، وإنما هو خلق مفاهيم ورؤى غير موجودة في الطبيعة، مما ينتج لنا غوصاً كلياً وليس جزئياً في واقع افتراضي، ففي المسرح الرقمي يكون الجسد واقعاً، أما الأشكال والرموز والألوان والإطار فيكون افتراضياً، مما ساهم في خلق جدلية بين الجسد وأحدث التقنيات الرقمية.
وفي أعمال (أدريان موندوت وكلير باردين) نعيش الخيال واقعاً، ونعيش الواقع افتراضاً ضمن تكوينات هندسية مصممة بأحدث التكنولوجيات الرقمية في مستوى عرض الصورة، فيعيش المتلقي الواقع الافتراضي (طالما تظهر الصورة أمامه، وتتغير بطريقة انسيابية سلسة وبسرعة لا يلحظها المخ)، وهنا ينعزل المتلقي كلياً عن العالم الحقيقي، فينغمس في عالم افتراضي وفي تكوينات افتراضية.
ففي وقتنا الراهن أصبحنا نتحدث عن عرض مسرحي ليس كما عهدناه سابقاً، وإنما هو مزيج بين العرض الحي وبين أحدث التكنولوجيات الرقمية، المنتجة لنا ما يسمى بالواقع الافتراضي، وبذلك يغير العالم الرقمي عالم الفن، فيعطينا رؤية حديثة للفن، على مستوى طريقة العرض، ومن هنا نقول هل يكون الرقمي في خدمة المسرح؟ أم أن المسرح في خدمة الرقمي؟ وهل الرقمي غير بعض الأشياء في المسرح؟
أولاً يجب أن نقول بأن الرقمي غير طريقة الكتابة المسرحية، وغير أيضاً طريقة العرض المسرحي، مما أنتج لنا سينوغرافيا حديثة ترتكز بالأساس على المؤثرات البصرية الجديدة، وهذا ما يساهم في خلق إمكانات جديدة أكثر تحرراً، تمتاز بالإبداع وبخلق جمالية معاصرة تحاكي تطورات عصرنا.
إن الرقمي يخدم المسرح، وكذلك هذا الأخير هو في خدمة الرقمي، لأن كل واحد منهما له خصائصه، فالرقمي أضاف قدرات جديدة للمسرح، على مستوى الإضاءة، والديكور، والألوان، وحتى الشخصيات والأشكال، وبالتالي أفرز لنا الرقمي مفهوماً معاصراً، وهو الافتراضي. كذلك المسرح في خدمة الرقمي، حيث يعد فضاء ومجالاً فنياً يجد فيه الرقمي إبداعاً خاصاً، خصوصاً أن للمسرح تاريخاً كبيراً، وهذا ما يجعل من الرقمي تقنية تضيف للمسرح جمالية معاصرة، لم نجدها من قبل، وبالتالي غيرت الرقمية عدة نظريات.

ذو صلة