مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

رحالة عشقوا مكة وتاهوا بالكعبة حباً

رحالة عشقوا مكة وتاهوا بالكعبة حباً
لم يحظ مكان في الدنيا باهتمام الرحالة والمستشرقين مثلما حدث في الأراضي الحجازية.. نعم، ومَنْ يُنكر جهود ورحلات جوزيف بتس الإنجليزي سنة 1680م، ولودفيجو فارتيما الإيطالي الأصل سنة 1503م، ومولانا رفيع الدين المراد آبادي الهندي سنة 1201هـ/ 1789م، وسانت جون فيلبي البريطاني سنة 1922م، وكثيرين غيرهم. ولولا الكتابات التي قدمها الرحالة لفاتنا الكثير مما لا تتضمنه الوثائق من عادات الشعوب وتقاليدها وتطور أنشطتها وثقافاتها.
(المجلة العربية) تتعرض لمجموعة من الرحالة المتفاوتين في الأعمار كان همهم البحث العلمي البحت، والتنقيب عن الآثار، ودراسة الأماكن، وحب المغامرات والمهام السياسية، وهي كتابات تتسم بالصدق وتعكس اللحظة التي عاشها أصحاب من كافة الجوانب.
رحلة فارتيما عبر الجزيرة العربية
استطاع فارتيما الإيطالي خلال الفترة من 1503 إلى 1509م التعرف على عادات الشعوب وثقافاتهم واقتصادياتهم، وعُرف باسم الحاج يونس المصري، وأحياناً المملوك المصري، وفي الهند عُرف باسم الحاج يونس العجمي. ويبدو أنه كان رجلاً عسكرياً نظراً لاهتمامه بوصف الأسلحة والمدافع والتجمعات العسكرية.
من القاهرة بدأ رحلته في بلاد العرب الصحراوية إلى سوريا ونزل في بيروت ثم حلب وحماة ودمشق، وفي عام 1503 توجه إلى مكة مع قائد القافلة المملوكي وجمعتهما الصداقة ووصلا إلى سدوم وعاموراء، ووجدت القافلة بئر ماء صغير فحطت بالقرب منه، وبعد صراع بين القافلة والبدو حول آبار الماء وجدت القافلة جبلاً صغيراً يسكنه مجموعة من الناس من اليهود قصار القامة عراة أصواتهم كأصوات النساء لا يأكلون سوى لحوم الغنم ويعترفون بأنهم يهود، وإذا ما وقع في أيديهم أحد من المسلمين سلخوه حياً.. وبعد يومين توجهت القافلة إلى المدينة المنورة فاستحم أفرادها في بئر وارتدوا أثواب الإحرام الكتانية النظيفة.
يصف فارتيما مساكن المدينة المنورة المشيدة من الطين وحولها منطقة صحراوية قاحلة بالقرب منها بستان به نخل، وحين وصل فارتيما مكة يقول: إنها مدينة رائعة الجمال قد أحسن بناؤها وتضم ستة آلاف أسرة ومنازلها جيدة كمنازلنا.
ويصف المسجد الحرام والكعبة المشرفة فيقول إن المسجد مبني من طوب أحمر وإنه جميل جداً وله تسعون باباً أو مئة في إشارة إلى كثرة أبوابه التي يجلس حولها باعة الجواهر. وحين تنزل بضع درجات إلى المسجد تجد كل أنحاء المسجد وكل شيء حتى الجدران مغطاة بالذهب، ومن الصعب وصف روعة الروائح بالمسجد، والكعبة في وسط المسجد مغطاة بالحرير الأسود، وبها باب من الفضة الخالصة بارتفاع قامة الإنسان.
وعند بئر زمزم يصف عملية التطهر والتبرك بماء زمزم، وفى إشارة لطيفة إلى مخلوقات الله غير المألوفة في الجزيرة العربية، يقول فارتيما: يوجد في موضع من المسجد الحرام مكان سور به اثنان من الحيوان المعروف باسم وحيد القرن، وكان قد أهداهما ملك إثيوبيا إلى سلطان مكة باعتبارهما من أطرف ما في العالم وأجمله.
جوزيف بتس في رحلته إلى الأماكن المقدسة
هو أول رحالة إنجليزي يزور مكة المكرمة، وأول رحالة في التاريخ الحديث يصف دروب الحجاج من بلاد المغرب براً وبحراً إلى مصر فالحجاز، وهو ثاني أوروبي يزور مكة في التاريخ الحديث.
غادر بتس إنجلترا عام 1678 صبياً لم يتجاوز الخامسة عشرة طلباً للمعرفة وتأمل العالم، فوقع أسيراً في أيدي أحد البحارة الجزائريين فاتخذه عبداً لبضع سنين واصطحبه إلى مكة ليحج معه وليزور المدينة المنورة عبر رحلة بحرية إلى مصر، ومن السويس غادر إلى جدة فمكة ثم إلى المدينة المنورة، ثم عاد عبر الطريق نفسه إلى الجزائر في عام 1680.
أعتقه سيده بعد أداء فريضة الحج واعتبره ابناً له، ومع ذلك تمكن من الهرب إلى وطنه ليصور هناك كتاباً عن الإسلام في عام 1704.
بعد وصفه للكعبة يصف الطواف حول الكعبة، ويشير إلى جبل حراء ويقول إن حراء تعني المبارك. ويصف جوف الكعبة فيقول: (وقد أُتيح لي أن أدخل جوف الكعبة مرتين طوال فترة مكوثي بمكة وهو حظ سعيد لم يُتح لآلاف الحُجاج، رأيت عمودين خشبيين لدعم السقف وقضيباً حديدياً مثبتاً فيهما عُلقت عليه ثلاثة أو أربعة مصابيح فضية، والأرضية من رخام وكذلك الجدران الداخلية وثمة كتابات عليها، والجدران الداخلية مُغطاة بالحرير على ارتفاع قامات الحُجاج الذين لا يمكثون في الكعبة إلا لحظات لأن هناك آخرين ينتظرون الدخول، وبعد ذلك تُغسل الكعبة بماء زمزم، وتُكسر المكانس إلى قطع صغيرة ويُلقى بها على الحُجاج ليحتفظوا بها كذكرى، والأرض المحيطة بالكعبة مرصوفة بالرخام، وهي أرض المطاف حيث توجد حوله أعمدة نحاسية يبلغ ارتفاع الواحد منها خمسة عشر قدماً ويبعد الواحد منها عن الآخر عشرين قدماً وثمة مصابيح معلقة فوق هذه القضبان تُضاء ليلاً، وهذه المصابيح الزجاجية تُملأ حتى نصفها بالماء، ويوضع الزيت ليطفو فوق الماء ويوضع فوق الزيت سلك حلزوني قائم فوق ثلاث قطع صغيرة من الفلين لتجعله يطفو، وفي وسط هذا السلك توضع فتيلة ويشعلونه فيظل مشتعلاً حتى ينتهي الزيت، وفي كل يوم يغسلون هذه المصابيح ويُزودونها بماء جديد وزيت وقطن وفتائل).
ويصف بتس مقام إبراهيم وبئر زمزم ويوم عرفة، وطقوس الحُجاج في الأضاحي وما يعقبها من عادات، لقد كان يرصد كل شيء بصدق وأمانة قائلاً:
رويت ما رويت لك (للقارئ) صادقاً أميناً، وأتحدى العالم أن يتهمني أحد بالكذب.
رحلة المراد آبادي الهندية إلى الجزيرة العربية
وهذه الرحلة الهندية إلى الأراضي الحجازية، كتبها صاحبها مولانا رفيع الدين المراد آبادي باللغة الفارسية منذ أكثر من قرنين من الزمان، والحقيقة أن الكتابة في شبه القارة الهندية عن الرحلة إلى الأماكن المقدسة بدأت باللغة الفارسية التي كانت لغة العلم والعلماء، بينما كانت اللغة الأُردية لغة عامة الشعب.
وإذا كانت أول رحلة بالفارسية خارج شبه القارة الهندية كُتبت سنة 437هـ/ 1045م بقلم ناصر خسرو، فإن أول رحلة كُتبت داخل شبه القارة الهندية بالفارسية كانت بعنوان (جذب القلوب إلى ديار المحبوب) للشيخ عبدالحق محدث الدهلوي، عن زيارته للأماكن المقدسة سنة 997هـ/ 1589م... ورغم أن القرن الثامن عشر الميلادي/ الثاني عشر الهجري شهد تطور النثر الأدبي في مراحله الأولى، إلا أن الغلبة ظلت للكتابة بالفارسية، ومن هنا كتب مولانا رفيع الدين المراد آبادي -وهو تلميذ شاه ولي الله الدهلوي- رحلته بعنوان (مشاهدات حرمين شريفين، أو سوانح حرمين شريفين) وهناك نسخة من الرحلة في مدينة رام بور بالهند عنوانها: (آداب الحرمين)، وقد نقلها للأُردية مولانا نسيم أحمد فريدي أمروهي، وأُطلق عليها عنوان الرحلة الهندية إلى الأراضي الحجازية، لأنها أول رحلة كتبها مؤلف هندي سافر إلى الحرمين الشريفين.
والمؤلف هو: مولانا رفيع الدين بن فريد آبادي، حفيد نواب عظمة الله خان الفاروقي حاكم مراد آباد.. ولد في مراد آباد سنة 1134 هجرية، وأخذ العلوم على يد العالم الهندي المعروف شاه ولي الله الدهلوي صاحب كتاب حُجة الله البالغة، كما تتلمذ على يد علماء هنود كبار.. ترك مولانا رفيع الدين مؤلفات عديدة منها: سلوى الكئيب بذكر الحبيب، شرح الأربعين، تذكرة المشايخ، كتاب الأذكار، تذكرة الملوك.
بدأ المؤلف رحلته من مسقط رأسه مراد آباد سنة 1201 هجرية، وعاد منها سنة 1203 هجرية، بعد رحلة استغرقت سنتين وشهرين وأسبوعين، وتوفي في الخامس عشر من ذي الحجة سنة 1223 هجرية بعد عودته من الرحلة بعشرين سنة عن عمر ناهز التاسعة والثمانين ودُفن في مراد آباد. دوَّن مشاهداته في سفره البري والبحري من مسقط رأسه إلى أرض الحرمين مروراً بحضر موت واليمن، واعتمد بالإضافة إلى مشاهداته العينية على ما سمعه من أخبار أو ما طالعه من رحلات سابقة أو كتب كُتبت في موضوعات مختلفة تتعلق بموضوعه.
لقد وصف الطريق والرفيق ووصف المدن والقرى والأمور الاجتماعية التي تضمنت وصفه للبشر وفئات المجتمع وطبقاته، كما ذكر العلماء والأدباء والمدارس وحلقات الدرس وعن الأمور الاقتصادية، ومن هنا كانت ترجمة هذه الرحلة ضرورة مُلحة لأنها تضيف جديداً إلى نوعية الكتب المترجمة.


ذو صلة