البشرية اليوم بكل شعوبها ودولها وقاراتها، أمام قضية خطيرة وبالغة الأهمية، باتت تؤرق الدول والمجتمعات الحديثة، غنيها وفقيرها على حد سواء، وبرز الاهتمام المحلي والإقليمي والعالمي بها في السنوات الأخيرة، وبدأ خبراء التكنولوجيا والبيئة والصحة العالمية يحذرون من مخاطرها الجسيمة على البشرية.
إنها قضية النفايات الإلكترونية (Electronic Wast)، ذلك الخطر الصامت والقاتل الخفي، والعدو اللدود للإنسان والبيئة، بما تحمله هذه النفايات من مواد عضوية وكيماوية ضارة بكل الأحياء وعناصر البيئة، وتعد قنابل موقوتة في المنازل والشركات والهيئات والمؤسسات والطرقات والبيئة المحيطة.
مفهوم النفايات الإلكترونية
النفايات الإلكترونية، مصطلح حديث ارتبط ظهوره مع التقدم العلمي والتكنولوجي، الذي أغرق البيوت والمجتمعات بعدد هائل من الأجهزة الإلكترونية، سواء كانت حواسيب بكل مكوناتها، أو تليفونات محمولة، أو تليفزيونات وفيديوهات، أو أجهزة إلكترونية في مختلف المجالات، فهذه الأجهزة على اختلاف أشكالها وتعدد استخداماتها، لها عمر افتراضي، فإذا ما انتهى عمرها أو جيلها، وظهرت أجيال حديثة منها، صارت مخلفات أو نفايات إلكترونية، أو (خردة إلكترونية)، أو ما يمكن تسميته (كراكيب التكنولوجيا الحديثة)، وأصبح من الضروري التخلص منها بشكل آمن، أو إعادة تدويرها مرة أخرى في صناعات جديدة، بحيث لا تسبب أضراراً، بما تحتويه من معادن وعناصر خطرة ومواد كيميائية سامة، على الإنسان والبيئة، هذا إلى جانب العائد الاقتصادي الكبير من وراء إعادة تدويرها، فهي بمثابة كنوز منسية يجب استغلالها.
وتزداد خطورة هذه النفايات الإلكترونية في البلدان المتقدمة التي تنتشر فيها التكنولوجيا والأجهزة الإلكترونية بشكل واسع، أكثر مما هو كائن بالبلدان النامية والفقيرة، والتي لا تنجو هي الأخرى من خطر هذا النوع المستحدث من النفايات، وقد يجد الزائر لدولة كالصين أو اليابان، أكواماً من الكراكيب والنفايات الإلكترونية على جانب أحد الطرق هناك، بما يشبه إلى حد كبير أقوام القمامة والمخلفات البشرية والمنزلية في بعض البلدان العربية، وقد يجد نفايات إلكترونية ملقاة في الصين، مع علامة موضوعة عليها، تشير بوضوح إلى أنه (تم جمعها لإعادة التدوير في كاليفورنيا)، أو أي دولة أوروبية أو شرق آسيوية.
قنابل موقوتة
وهذه المخلفات الإلكترونية تمثل بالطبع قنابل موقوتة، سواء كانت على جانب الطرقات أو داخل البيوت أو في مكبات القمامة، بما تسببه من تسمم وتلوث أكيد للبيئة والحياة البشرية، فالتقارير العالمية تشير إلى أن 5 % من إجمالي المخلفات الصناعية في غالبية دول العالم هي مخلفات إلكترونية، مع التأكيد على أن هذا النوع من المخلفات يعتبر من المخلفات الخطرة ذات التأثير الضار على الإنسان والصحة العامة، في حال التخلص غير الآمن والسليم منها، حيث تتسبب في انبعاثات سامة لاحتوائها على مواد ومعادن خطرة مثل الرصاص والزئبق والزرنيخ والكادميوم والنحاس والألمنيوم والفسفور، إضافة إلى المواد المسرطنة الناتجة عن حرق الأجزاء البلاستيكية في هذه الأجهزة، ومن هنا تصنف هذه النفايات عالمياً ضمن النفايات الخطرة.
الائتلاف العشوائي
فالمشكلة البيئية والصحية الخطيرة التي تنتج عن ائتلاف النفايات الإلكترونية بشكل عشوائي، تظهر من خلال تسرب مكوناتها من العناصر السامة إلى الموارد الطبيعية من مياه وهواء وتربة، لتصل فيما بعد إلى الإنسان عبر الغذاء، أو عن طريق الاستنشاق، مما يترتب عليه تعرض الإنسان لمشكلات صحية، وأمراض خطرة كالسرطان، وأمراض القلب والالتهابات، والتأثير على عمل جهاز المناعة.
ويزيد من خطورة الأمر أن تصبح البلدان الفقيرة مدفناً كبيراً للمخلفات والنفايات الإلكترونية الخاصة بالبلدان المتقدمة، حيث تدخل ملايين الأطنان من هذه المخلفات في صورة أجهزة مستعملة، يمكن إصلاحها وبيعها للاستخدام مرة أخرى في البلاد الفقيرة، التي لم تحقق حتى اليوم طفرة تكنولوجية في هذا المجال، ومازالت تعتمد في استهلاكها للتكنولوجيا على البلدان المتقدمة، سواء كانت حواسيب أو تليفونات محمولة، أو غيرها من الأجهزة الإلكترونية المتعددة.
مصير مجهول
أكد تقرير حديث حول (التقنيات السامة)، أن ملايين الأطنان من النفايات الإلكترونية مصيرها مجهول، ويزداد حجم الإلكترونيات القديمة أو النفايات الإلكترونية مثل الحواسيب والهواتف وأجهزة التلفاز على نحو كبير في كل عام. ففي الكثير من البلدان، أضحت معدلات النفايات الإلكترونية الأسرع والأكثر نمواً، حيث إن الأسعار الرخيصة لتلك المنتجات جعلت المستهلكين أمام واقع مفاده: أن استبدال الإلكترونيات بات أفضل اقتصادياً من تصليحها، وفي المقابل، فإن انخفاض أسعار تلك الإلكترونيات يعني بالضرورة انخفاض مستوى الجودة، وبالتالي انحسار مدة صلاحيتها.
في حين دخلت المنتجات الإلكترونية في لعبة التخلص من القديم منها، عبر الرمي في النفايات بالكثير من البلدان المتقدمة، فإن كميات تلك النفايات الإلكترونية ازدادت بمعدلات هائلة، وما زالت الحلول بعيدة عن حجم وواقع المشكلة، حتى في الاتحاد الأوروبي ذاته، الذي يعد الأكثر صرامة في هذا المجال، فإن ما يقارب الـ75 % من نفاياته الإلكترونية تبقى مجهولة المصير، ويكفي أن نعلم أنه من إجمالي 8.7 مليون طن من الإلكترونيات المنتجة في الاتحاد الأوروبي سنوياً، فإن 6.6 مليون طن منها لا يعاد تدويرها، وتصبح في دائرة النفايات الإلكترونية الخطرة.
قلة التشريعات المنظمة
أما في الولايات المتحدة فإن التشريعات المختصة بالنفايات الإلكترونية قليلة جداً، ويعاد تدوير ما يقل عن 20 % فقط من تلك النفايات، وتتوزع هذه النسبة على 10 % للحواسب، و14 % لأجهزة التلفاز، والباقي للأجهزة الإلكترونية الأخرى. كما أن الانتقال الحتمي نحو أجهزة التلفاز الرقمية في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من دول العالم سوف يؤدي إلى ازدياد مريب ومخيف للنفايات المكونة من أجهزة التلفاز القديمة.
بالإضافة إلى كل ذلك، فإن ما يقرب من 20 % من النفايات الإلكترونية المجمعة في الولايات المتحدة الأمريكية، يتم تصديرها إلى خارج البلاد، والخطير في هذا الأمر أن التشريعات في الولايات المتحدة ما زالت تضفي شرعية قانونية على عمليات تصدير هذه النفايات إلى كل من أفريقيا وآسيا، شأنها في ذلك شأن عدد قليل من البلدان.
الوعي العربي بالمشكلة
وتزداد خطورة النفايات الإلكترونية في الدول العربية نتيجة لقلة الوعي بخطورتها، وعدم وجود تشريع أو قانون أو قواعد من قبل الجهات الرسمية للتعامل مع مثل هذه المواد الخطرة، وتنظيم عملية إدارتها وإعادة تدويرها، وبالتالي أصبحت العملية عشوائية، وذلك باستثناء بعض الدول العربية التي بدأت في السنوات الأخيرة تدرك خطورة هذه النفايات وتخطط للتعامل معها بشكل آمن، وتقوم بحملات توعية مجتمعية حولها، مثل مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والكويت ولبنان والأردن، والتي بدأت تطبق خطط وسياسات في التعامل مع النفايات الإلكترونية وإدارتها.
أضف إلى ذلك عدم وجود إستراتيجية واضحة للتعامل مع هذه النفايات، وغياب الإدارات التي تتعامل معها، والجهات التي تقوم بتدريب وتأهيل الكوادر القادرة على عملية تفكيكها والاستفادة منها، بشكل يحقق عوامل الأمان للإنسان والبيئة، خصوصاً وأن عملية التفكيك وإعادة التدوير تحتاج إلى خبرات علمية وتقنية جيدة.
إعادة التدوير
وإذا كان إعادة تدوير الأجهزة الإلكترونية القديمة لا يمثل إلا نسبة ضئيلة جداً من كم المخلفات والنفايات الإلكترونية الهائل، فإن من الحلول المهمة في هذا المجال قيام الشركات الإلكترونية الكبرى بإلغاء المواد الكيميائية السامة من منتجاتها الجديدة، وتحسين برامج إعادة التدوير، فالشركات التي أوجدت الطلبات الكبيرة للحصول على أحدث الهواتف النقالة، والحواسب الشخصية الحديثة الباهية الشكل، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الأرباح لديها بشكل هائل، تلك الشركات مطالبة باعتماد المعايير البيئية الوقائية السليمة، لا تجاهل تلك المعايير.
فهل تتحول نعمة التكنولوجيا الحديثة إلى نقمة، بفضل النفايات الإلكترونية، التي باتت تشكل تهديداً جديداً وخطيراً للبشر على كوكب الأرض، بسبب الملايين من أطنانها التي تتولد كل يوم في كل أنحاء المعمورة؟
حلول جذرية
إن العالم في أمس الحاجة إلى حل جذري وسريع لهذه المشكلة المستحدثة، من خلال دراسة الجانب البيئي للصناعات الإلكترونية والكهربائية، ووسائل إعادة تدوير مخلفاتها، والتخلص الآمن منها، ووضع التشريعات المحلية والدولية التي تنظم عمليات تدوير النفايات وشروطها، وتجرم تصديرها كنفايات خطرة إلى الدول الفقيرة، وزيادة حجم التوعية الإعلامية بأضرارها الجسيمة على الحياة البشرية والبيئية.
وذلك كله لتقليل ما تحمله للبشرية اليوم من تحديات وأخطار على المستوي الصحي والبيئي والاقتصادي والاجتماعي، فهذه النفايات الخطرة باتت تؤرق الدول والمجتمعات البشرية اليوم دون استثناء، غنيها وفقيرها على حد سواء، ولا يمكن بأي حال من الأحوال غض الطرف عن أضرارها الجسيمة التي تتنامي كل عام، مع وجود ملايين الأطنان من هذه المخلفات في كل بقاع الأرض، وتحايل بعض الدول المتقدمة في تصديرها إلى الدول الفقيرة والنامية تحت ستار (الهبات والمساعدات)، بهدف التخلص منها، لتضيف بذلك تحدياً جديداً على كاهل تلك الدول المنهكة اقتصادياً، والتي تعاني من مشكلات لا حصر لها على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.