يُعدّ كتاب (القتل بالشعر دراسة في سيميوطيقا الثقافة: الدامغة لجرير بوصفها علامة) جزءاً من اهتمام المؤلفة أ.د فاطمة الوهيبي بموضوع (العلاقة القوية بين الجمال والعنف في البُنى التصورية للشعر والشعراء في الثقافة العربية)، وحلقة من سلسلة حلقاتها البحثية التي تهدف إلى الكشف عن ظاهرة تجلي العنف في وصف الجمال، أو الحديث عن غرض شعري عنيف وهو الهجاء، الذي أسهم على وقوفها لأول بحث لم يُلفت النظر إلى تفطّن استقصاء دراسة العنف في شعر هجاء جرير وما يثيره من معتقدات وعادات وسلوكيات.
(فالصدفة تُحابي العقول المستعدة) دائماً، وهذا ما أحدثه تفرّد استبصارها الفذّ من غربلة قصيدة جرير (الدامغة) نتيجة الاكتشاف بالصدفة، والتي لا تتأهَّب إلا لمتضلع علمٍ، ناقد النظر، مهيأ الذهن لاستنباء جديد من رؤى أحاديّة قيمة.
إذ تنصبّ الدراسة بالدرجة الأولى على القصيدة القاتلة التي هجا بها جرير الراعي النُميري، وقيل إن الراعي كمد بسببها ومات، وقد سماها جرير لما انتهى من نظمها (الدامغة)، (الدماغة)، (الدهقانة) وكلها ألقاب ارتبطت بالقصيدة البائية المشهورة. وكان جرير أيضاً يسمي قافيتها (المنصورة) والتي أخمد بها جمرة قبيلة بني نُمير. وفي قول ابن رشيق إن العرب كانت تسميها (الفاضحة).
اعتماد الدراسة على سيميوطيقا الثقافة منهجاً وصفياً وتفصيلياً، بدءاً بما مرّ جرير من حالة نفسية جسيمة ألهبت خلق تصوّر ذهني، زجَّ بِعدوه أشدّ العذاب والتنكيل، في نسج قصيدة آلت لنشوء علامة (دامغة) قاتلة، بالإفصاح عما يتوارى خلف نسقها، واستجلاء سرّ تداوليتها وديمومتها.
فترى المؤلفة قصيدة الدامغة مثالاً ونموذجاً جيّداً في وسمها (القتل بالشعر عند جرير) لِما حفّ بها من أحكام وتصورات وخيال. أحاطت فيه شمولية فحص القصيدة من جميع جوانبها الداخلية والخارجية، (السياق القبلي، والاجتماعي، والفني الأدبي غرض الهجاء) و كل ما أحاط بها من زاوية (الإطار، والمنظور، وعتبات النص) أسندها تقسيم الدراسة إلى عدد من الأبواب والفصول.
تقسيم الكتاب: قسم إلى أربعة أبواب، وكل باب يحتوى على فصول.
الباب الأول: الأطر والنصوص الموازية للنص الشعري، وما حف به من أخبار ومرويات تناولتها من زاوية الإطار والعتبات. استهلال المؤلفة بإشارات تمهيدية، أذكى استحضار القارئ في تكوين أيقونة متكاملة عن قصيدة (الدامغة) لجرير. وذلك في إبانة أسباب تخلّق وتكوّن هذا العنف الذي أودى إلى القتل، بدءاً باسمه، ورؤيا أمه قبل ولادته، في نشوء نسج دموي: (حبل، فعقدة، فخنقٌ، ثم قتل) متنامياً من صورة مجازٍ إلى حقيقة. إذ تُشكل لنا المؤلفة (صورة بصرية) نعتمد على قراءتها وتحليلها سيميوطيقيا في تفكيك عناصرها الرئيسة من: (البنية، التصنيف، التركيب، الدلالة، الوظيفة، السياق)، كملاحظة لون اللباس وخلع العمامة والهيئة وهو واقف ينشد قصيدته ودهن الشعر وشقه. فالخروج بهذا المظهر المهيب وقصده مجلس الراعي والفرزدق وعدم إلقاء السلام وتوجيه الخطاب لهما، والخزي الذي ينتظر نساء قبيلتهم، كل هذا يُنبّه في الإتيان على: فعل هجاء شكِس، قاسٍ ومؤلم وعنيف في مكان يتداوله الناس (سوق المربد). فكل هذه المؤثرات والعتبات كانت لبداية نصٍ، أثار جرير لزمجرة قصيدة أرعدها في مئة وأربعة عشر بيتاً، نُكست على إثرها الرؤوس، وأقرعت الراعي في ذهولِ سَبْقِهَا وسيرورتها بمدد أتباع جرير من الجن. فتنسُج لنا المؤلفة (جمع العلاقات المتباينة في سبب ابتداء القتل) باستخدامها إستراتيجية التمهيد، وكشف الاستفسارات، والإشارات الرمزية البسيطة التي تمهد في الدخول لموضوع (القتل بالشعر) في الباب الثالث والرابع.
تلجأ المؤلفة في الباب الثاني: العنف الشعري والبنية التصوريّة للشعر عند جرير: للاستعارة التصويرية في تجسيد صورة العنف الشعري بوحشٍ شرس لا يهدأ عواؤه إلا بالفتك والتمزيق، فالصورة (جزء لا يتجزأ من الدلالة العقلانية) التي تكشف إيضاح البنية التصورية المتعلقة بالحدّة والشراسة لدى جرير في قصيدته (الدامغة).
فقد جعلت المؤلفة القارئ أمام تفكيك كامل لمعنى القصيدة يشهد به تكوين مراحل نموه بدءاً من بث واستثارة حواس جرير في إضاءة الصورة الذهنية لتوليد دلالات (الإبداع اللغوي)، حنكة التدرّج والعتبات المفتاحية أصبغ أسلوب المؤلفة حلية التفرّد والبراعة في تكوّن أرضية معرفية خصبة، شكّلت بها أسباب ومرجعيات عنف جرير وتهديده بالقتل، وإثارة القارئ بتساؤلات عدّة قبل ولُوجه أبواب إبانتها وإفصاحها: هل قصيدة الدامغة تُعد السابقة/الفاتحة لممارسة جرير فعل قتل الشعراء؟ وهل الراعي النُميري يُعد القتيل الأول والأخير أم سبقه وتلاه قتلى آخرون؟ وكيف كان هجاء جرير؟ وبماذا امتاز؟ كل هذه التساؤلات يسبر أغوارها (الباب الثالث: القتل بالشعر) الذي يحيلنا لكشف أسباب الفخر بالهجاء، وإكساب صفة (القتل بالشعر) لدى جرير. فإن صح ما توارد من بعض الروايات أن الراعي النميري (كمد لما سمعها (أي القصيدة) فمات) فإنه بذلك يُعد القتيل الأول، لتفاجئنا المؤلفة بقتيل ثان وهو (العباس الكنديّ) حسب ما رواه ابن سلّام. ويكون ذو الرُّمة القتيل الثالث ضمن طرَائِد سُقوط مقاومة نِزال جرير:
ما زالَ حَبلي في أعناقهمْ مرساً
حتى اشتَفَيْتُ وَحتى دانَ مَنْ دانَا
و ما هذا إلا تعمداً من جرير في خلق الانّفراد بالبراعة ورسوخ ديمومة الأثر، في تطعيم هجائه بتلميعات وتنميقات صياغيّة متعددة تَدُق دندنةً في سمع منازِعه، لتخلق صدعاً ووجعاً بما يعيبه، فتكون باعثاً على تهيّج السامعين للسخرية والضحك. وفي الباب الرابع والأخير: الدامغة بوصفها: علامة، وأداة القتل بالشعر: تسعى المؤلفة من تخصيص دراسة هذا الباب الأخير (بسيميوطيقا الثقافة)، لإظهار المعنى المبني على تمهيدات سابقة مدروسة في كشف تخصيص جرير قصيدته بعلامات وسِمت بأسماء اجتثت من محيطه المجتمعي، بغية غرس المعنى الحقيقي، وتشرّباً لمراميه، فقد تعددت إشاراته بألقاب القصيدة:
(الدامغة، الفاضحة، الدّهقانة) القائمة على طبيعة ذلك التعايش المجتمعي، ليُحيلنا لاستجلاء الهدف المنشود المتكامل لدراسة القصيدة بوصفها: (وسمَا وأثراً وعلامة)؟!!
فما هي سيميوطيقا الثقافة؟
تدرس الدوال، العلامات، الأيقونات، في (أي فعل أو تأثير لتواصل المعنى وذلك بتأسيس العلاقات بين العلامات التي سيتم تفسيرها من قبل الجمهور). فهي تهدف لبناء المعنى العميق، واكتشاف الدلالة الكامنة خلف السطح. إذ تتعدد المواضع التي تدرس السيميوطيقا (الفعل، الذات، الوجدان، التوتر، (الثقافة) وهي التي ركزت عليها الدراسة، الفضاء، الزمان، الشخصية، الصورة، الإشهار، الأسلوب، النص، الفن، التأويل، ووسائل الإعلام). إذ تعرّف سيميوطيقا الثقافة بأنها: (دراسة الأنظمة الثقافية باعتبارها (دوال، علامات، أيقونات، إشارات رمزية لغوية/بصرية) بغية فهم المعنى الثقافي الحقيقي داخل المجتمعي ورصد الدلالات: الرمزية، والأنثروبولوجية، والفلسفة الأخلاقية.) فهي تبحث عن القصدية والوظيفة داخل الظواهر الثقافية والإثنية البشرية ضمن: سيميولوجيا التواصل.
فقد استطاع جرير أن يحقق سطوة انتصاره وقوة سلطته (بلعبة الشعر) في خلق حيل وألاعيب لغوية -في ممارساته الشعرية لاسيما خصومه- ساعدت على:
1 -خلود الرّسم واستجلائه، ببزوغ علامته البصرية، وأبدية الشعر الأزلية، فجرير يوظف قدراته الشعرية بدمج ثقافته القبلية وديمومتها.
2 -تثبيت العلامات والأنساق، فالسيرورة والتكرار ساعدت على تجدّد الذاكرة وانتعاشها بقدرة جرير الشعرية الفذّة وتحقيق ديمومة الذل والهوان لبني نُمير وإطفاء الجمرة الثالثة من جمرات العرب فما كانت البنية التصورية في هجاء جرير إلا وشماً حوّل أبياته الشعرية إلى علامة قاتلة فاتكة.
أدوات قتل جرير بتّارة حاسمة، تسبب خصمه في نشوئها ونموها بدءاً من ابن النُميري المتسبب الأول في بداية فعل القتل الحقيقي، وإسباغ النُميري -المتسبب الثاني- وسم علامة الفاضحة بقوله لأصحابه: (فضحكم والله جرير)، ففتكت بقبيلته التي خلعت أباها متوارية عن وصمها بنسب آخر (عامر بن صعصعة). تتبُّع المؤلفة لانتقاء جرير في ألقاب القصيدة يوحي لبيئته الثقافة القبلية، فهو يصفها بما توارث عليه من معانٍ واضحة ومشهورة، فيختارها مرّة بصيغة المؤنث (الدهقانة) التي تعني بالفارسية القوة والزعامة، والرواج والتحكم والسيطرة، التي يصف فيها قصيدة بعينها وليس جل شعره. وتيمناً بالقافية البائية الممدودة في قصائده التي أجاد فيها ينتقي جرير اسم (المنصورة) تفاؤلاً بها. فما حازته من سبق الرّواج والانتشار العاجل زُعم أن لجرير أشياعاً من الجن.
وبذلك تختم المؤلفة سبب تكريس جرير السنن الشعرية، (فالفاضحة) عرّت النميري وقبيلته، باستعانته أدوات القتل (بالمثل والتمثيل) لِيبني عليها نصب تسنين الأخبار، بتحويل الرسالة المحسوسة إلى علامات.
وختاماً.. لا أُنكر إعجابي بعمق تفرّد رؤية المؤلفة في إخراج دراسة القصيدة ببروتوكول جديد مُنزو بغرابة المعنى الإيجابي للموضوع، والذي أخرجنا لعدة استنتاجات: إفراز وتتبع ثنائيتين متضادتين: القتل والديمومة، التي كشفت إضاءات غور المؤلفة وتشعبات استقصاءاتها وهج توارب المخبوء في عنف هجاء جرير، وركونه في انتقاء -العلامة السيميولوجية- (الدامغة)، إسباغاً لمتانة الإبلاغ والإقناع، واطراداً في إشهار القصيدة وديمومتها، توسلاً ببلاغة الصورة، ولغة المتداول في المجتمع.
فتظهَر لنا براعة جرير في فن توكيد صياغة لغته بعلامات الخطاب، تضميناً لقوة الإقناع والتأثير في معاضدة بلاغة القول باحترافية وابتكار. فحنكة المؤلفة في دراسة قصيدة (الدامغة) بمنهجية البلاغة الجديدة، بلاغة العلامة -الصورة-، وانسلاخها من محاكاة تتبع الدراسات السابقة في هجاء القصائد الشعرية وبخاصة عند جرير، صرّح للقارئ أسباب حيازتها ذاكرة بصرية أبت أن تتوارى خلد النسيان، في التقاط العلامة القاطنة خلف الأنساق، واستخلاص ما رمت إليه الدراسة باكتشاف (أنظمة التواصل) بين الجماعة الواحدة.
ممّا يحفّز على الانتِهَاض بأعماق ظواهر تداول التراث الأدبيّ العربي، بفحص الأسباب والمسببات وتفكيكها بأدوات منهجية جديدة، تسعي لتشييد معنى واحد وعميق. كتتبع شعر جرير من جانب آخر للسيميوطيقا: (الوجدان، التوتر، الشخصية) ومعرفة تنقّل جرير من أقصى درجات (العنف) إلى (اللطف واللين) في شعره وتحديداً (الغزل) والذي اشتهر به، كما في هذا البيت الذي وُصِف أغزل بيت قالته العرب:
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
وهنَّ أضعف خلق الله إنسانا
فشعر جرير وما يحمله من غزارة لغوية، أو معتقدات، وسلوكيات، لا يقتصر على دراسة السيميولوجيا وجوانبها فقط، بل يفتح آفاقاً أوسع وأرحب في فضاء دراسات المنهجيات الجديدة كـ(الدراسة الثقافية، أو الدراسة التداولية: كالقصدية، أو نظرية الملائمة، أو الحجاج،...) وغيرها الكثير من الدراسات والنظريات التي تُخرج جوانب ضمنية إثرائية قيمة وجديدة.
الدراسات لا تقف، وشغف التعمق لا ينتهي، في تأهّب العقول وتلمّس بواطن الأصول، لتَسْبِيب الجديد وإحياء القديم بتَطلُّعِ فكر، وإثراء عقل، وتجديد علم.