مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

الثقافة بين الورقي والتكنولوجي

في الآونة الأخيرة كثرت الدراسات التي تناولت سلوكيات الأطفال والمراهقين بعد استخدامهم للحواسيب والإنترنت وتركهم الثقافة الورقية، إلا أن بعض الدراسات ذهبت إلى أن الألعاب الرقمية يمكن أن تزيد من خطر الإصابة بالزهايمر والفصام لدى الأطفال والبالغين على حد سواء، كالألعاب العنيفة التي تضم شاشتها خرائط إرشادية، ومؤخراً أطلقت شركة جوجل تحديثاً جديداً لتطبيق (YouTube Kids)  المخصص للأطفال، يضم مجموعة من المزايا الجديدة التي تساعد الآباء في إنشاء حساب لكل طفل مع كلمة مرور خاصة به، ومع سرعة التقدم التكنولوجي لابد من إيجاد طريقة لتقنين استخدام الطفل للإنترنت حتى لا يؤثر على شخصيته فيجعله أكثر انطواء، وأقل تفاعلاً مع من يحيطون به، أما المنطقة الأكثر تضرراً في الدماغ وتسمى الحصين (Hippocampu)، وهي منطقة مسؤولية عن التعلم والذاكرة والعاطفة خلال فترة البلوغ، فأشارت إحدى الدراسات إلى أن الأشخاص الذين يلعبون هذه الألعاب أكثر ستتضاءل لديهم قدرة الحصين، وبالتالي سيكونون أكثر عرضة للزهايمر والاضطراب العقلي.
أجرى الباحثون الكنديون مسحاً دماغياً لسبعة وتسعين متطوعاً قبل بدئهم جولة من اللعب استمرت 90 ساعة على مدار أيام، ومسحاً دماغياً آخر عقب إنهائهم التسعين ساعة. وقد تبيّن من خلال المسح الثاني أنّ العديد من المتطوعين ممن لعبوا ألعاباً كالمشار إليها، من قبيل (كول أوف ديوتي) و(كيلزون)، انكمشت لديهم منطقة الحصين، وفي المقابل، فإنّ المتطوعين الذين لعبوا خلال التسعين ساعة ألعاباً مختلفة جداً، شأن (سوبر ماريو)، فإنّ قدراتهم الدماغية تعززت، تعليقاً على هذه النتائج، ذكر الباحثون أنّ على صانعي الألعاب أن يأخذوا في عين الاعتبار إزالة الخرائط المرافقة للألعاب عن الشاشات في تطويراتهم المستقبلية.
الأطفال والتكنولوجيا
من أهم المحاور التي أهملت هذه الأيام الكتابة للطفل، على الرغم من أن بعض الأدباء والفنانين انصرفوا عنهما وكأنهما شيء أصبح بلا جدوى، فلا يمكن الجزم بأن العقول قد تتفتح وتنضج عن شيء مفيد ينبئ بمستقبل باهر للإنسان، إلا من بين دفتي الكتب فيرى الطفل ما لا يمكن أن يراه في الواقع وعلى شاشات العرض، فقد جعل الله في العقل مجسمات ربانية تحجم لعقله ما يستوعبه حينما يقرأ نصاً قصصياً يتخيل البطل أو يرى ما يصوره كاتب القصة من خلال الرسوم، ولذلك لا يمكن أن يكتب قصصاً للأطفال أي كاتب مهما برعت كتاباته.
فللطفل رؤى أخرى لابد أن يلمسها الكاتب، ثم إنه على الرغم من التقدم والتكنولوجيا التي صنعت حالة من التراخي العقلي لدى الأطفال، شلت فكرهم وشدت انتباههم إلى عالم متحرك، أصبحت عيناه معلقتان بالبلورة السحرية التي أمامه بلا حراك يستحثه العقل، فلم يعد الطفل في حاجة إلى المجلات المصورة والى الكتب القصصية كما الماضي، وهذا ما نبهنا إلى الحقيقة المخيفة التي تروع كل رب أسرة، بذهاب بعض مواد الدراسة أيضاً وانصراف وإهمال القائمين والمسؤولين لها، وكأنها شيء أصبح بلا جدوى ومن بين المعرفة الأكاديمية للمواد في اليوم الدراسي كانت هذه الحصص والمواد تعد ترفيهاً تربوياً للطفل.
والإفراط في استخدام أي شيء يؤثر بالسلب على الأطفال، فقد نتج عن التطور التكنولوجي الذي يشهده عالمنا المعاصر أجهزة إلكترونية مختلفة، من ألعاب فيديو وحواسيب وهواتف نقالة بأحجام مختلفة، والتي أصبحت في متناول أوساط اجتماعية عديدة في العالم، إلى جانب استخدام الأطفال لهذه الأجهزة بشكل كبير، فيقضون ساعات طويلة من وقتهم أمام الأجهزة الإلكترونية بأنواعها، بعدما أصبحت هذه الأجهزة هي الأقرب إليهم، ليصل الطفل إلى مرحلة الإدمان، مما قد يجعله انطوائياً في حياته الاجتماعية ويبعده عن رفاق اللعب، وربما عن أسرته أيضاً، في الوقت الذي كان يتحتم عليه أن يمارس هوايات رياضية أو يقرأ أو يرسم، فلكي يصبح الطفل مؤهلاً بأن يكون هو الاستثمار الأمثل لأي أمة في بناء غد صالح يضمن لها بقاءها واستمرارها في الحياة، لابد أن يتعلم منذ الصغر معنى القيادة وأن يتحمل المسؤولية، بدلاً من أن نصفهم أمام أنفسهم بأنهم أطفال، لا يدركون شيئاً، لا يعوا ما يفعلون، هذه الكلمات تجردهم من الكثير من المسؤوليات، وتصيبهم بالخمول والكسل، والتهرب من التطلع والمعرفة، فقط لأنهم أطفال، لذا وجب على الآباء أن يضعوا خطة محكمة لتربية أبنائهم وإحاطتهم بالحب ومراقبتهم بوعي وإرشاد، واستعادة الحوار والنقاش معهم، وإيجاد حلول بديلة تفيد الأطفال في تنمية عقولهم وصقل مهاراتهم، بدلاً من أن يقضوا جُل وقتهم في ألعاب الفيديو وغيرها، فالموهبة والإبداع عطية الله تعالى وبذرة كامنة مودعة في أعماق الطفل، تنمو وتثمر أو تذبل وتموت، يجب إشراكهم في الأعمال والنشاطات، لأن ذلك الأمر يحتوي على أفكار مشجعة في تعلم أطفالنا الاعتماد على النفس في المستقبل وكذلك تحمل المسؤولية، نستطيع أن نستغل أقل إمكانياتنا والفرص المتاحة لنا في حماية أسرتنا وتأهيل أبنائنا، كل حسب بيئته الثقافية ووسطه الاجتماعي وخاصة الأسري، وقد نتفق فيما يخص الكسل البشرى في مواجهة التكنولوجيا الحديثة، بعدما أصبحت وسائل الاتصال غاية أكثر منها وسيلة، قديماً كانت تقتصر وسائل الإعلام لدينا على الراديو والكتب والقليل من المجلات، والألعاب البدائية التي كانت تتكون من بعض (الحصى وكعاب البوص وقطع من البلاط) وكانت (السيجة) هي ملكة الألعاب، وعندما جاءت التكنولوجيا أصبح الراديو الذي كان بمثابة الساحر الذي يشحذ الأفكار في الماضي وينمي ملكة الخيال من الحفريات قليل من يهتم به، وأصبحت الكتب والمجلات، ترث يبحث عنه من يكتب بحثاً لا لكي يستفيد منه بقدر أن يضم إلى أعداد المراجع عناوين من كتب ومجلات، وصارت ألعاب (السيجة والحجلة والسبع بلاطات وغيرها) هي فلكلور ونوستالجيا أجيالنا.
الكتابة رياضة اليد
أصبحت الكتابة والرسومات للطفل شيء أغرب من أن يجذب الانتباه هذه الأيام، بعدما حلت شاشات التلفاز والكمبيوتر محلها، وقضت على ملكة التأمل والإبداع لدى الطفل، حتى أن في المدارس أصبحت مجلة الحائط من تراث، ولم يعد هناك إشراك للطفل في تحرير أجزاء من المجلة اليومية التي اندثرت من المدارس، وبالتالي لم تعد هناك توجيهات تربوية معاصرة، بحيث تكون المجلة رافداً تربوياً مهماً للأطفال، بعدما أصبح لدى الأطفال مساحة شاسعة من الإدراك لما أمامه بعد ثورة التكنولوجيا، وهذا الذي أدى إلى تراجع حصص الرسم وحصص الموسيقى والخط في كثير من المدارس، الأمر الذي جعلنا نحتاج إلى وجود أخصائيين في الشؤون الفنية، قادرين على تحويل الفكرة إلى واقع عملي ملموس جذاب ومقبول للأطفال، إضافة إلى متخصصين في دراسة أدب الأطفال وعلم التربية وعلم النفس، لتنموا من جديد لغة التخاطب الشفهي والبحث المعرفي لديهم، والذي ينمو مع وجود المكتبات الورقية بجانب الحاسوب، فالطفل يحتاج أيضاً إلى أريج الكتب بين يديه للاستمتاع بما يقرؤه.

ذو صلة