مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

عصر النودلز

بعد مرور ستين عاماً على اختراعها، لعبت وجبات النودلز noodles أو المعكرونة سريعة التحضير دوراً مهماً في اقتصاديات الصين واليابان، فضلاً عن كونها غذاءً سهلاً وخياراً ممكناً لكل شخص يفتقد المال أو الوقت أو المطبخ. في العام الماضي، تم استهلاك أكثر من 100 مليار وجبة نودلز في جميع أنحاء العالم. وفي مسقط رأسها، اليابان، تم التصويت عليها في عدة مرات على أنها الاختراع الأكثر نجاحاً في البلاد، قبل القطارات عالية السرعة، وأجهزة الكمبيوتر المحمولة، وأضواء LED.
يمكن إرجاع أصل طهي النودلز إلى شكل مبكر من الطعام سريع التحضير، جلبه إلى اليابان الطهاة الصينيون سنوات 1880. في شكله الأساسي، يتكون هذا الطبق من معكرونة القمح التي تقدم في مرق خشن مع شرائح اللحم أو التوفو. وكان الطعام الأصلي للعمال الأجانب واليابانيين على حد سواء، وأصبحت الأكلة الشعبية الأولى خصوصاً في سنوات 1920 و1930 وغذاء الطبقات العاملة. وعلى مر العقود، تم تحسين هذه الوصفة البسيطة باستمرار وتكييفها من قبل الطهاة المبتكرين الذين كانوا يستعرضون مهاراتهم لصنع مرقات معقدة ونودلز مثالي فيه مجموعة كبيرة ومتنامية من الإضافات.
الحاجة إلى النودلز
بعد الحرب العالمية الثانية تغير كل شيء في اليابان، ودمرت مساحات كبيرة من المناطق الحضرية في البلاد بسبب القصف. وفي أغسطس 1945، بعد أسبوع من إلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي؛ خرج الإمبراطور الياباني هيروهيتو متحدثاً إلى شعبه للمرة الأولى في بث إذاعي مباشر، وأخبرهم بأن (المصاعب والمعاناة التي ستتحملها أمتنا ستكون عظيمة بالتأكيد). وتزامن استسلام اليابان مع أوضاع مناخية سيئة للغاية تسببت في إتلاف محاصيل الأرز، مما أدى إلى زيادة عدد الجياع. واضطرت معظم العائلات إلى الاعتماد على شوربة الخضروات الرقيقة والماء، ثم لجأت يائسة إلى تناول الجوز، وقشر البرتقال ونخالة القمح، غذاء الماشية في الأصل.
في تلك الفترة ظهر بطل غير متوقع، رجل الأعمال آندو مموفوكو Momofuku Ando، في سنوات ما بعد الحرب، كانت طوابير طويلة من الجوعى والمنهكين تنتظر بفارغ الصبر الأطباق المعبأة من حساء المعكرونة. كون الأخير ثروة من صناعة النودلز في تايوان واليابان. كانت الطبقة العاملة في اليابان بحاجة إلى شكل جديد وسريع من الطعام، بدل الأطباق التي تستخدم كميات كبيرة من الزيت النباتي والقمح الأمريكي. أدرك آندو مموفوكو أن الطعام أكثر من مجرد أي شيء لملء البطون الخاوية، (السلام سيعم العالم عندما يجد الناس ما يكفي من الطعام الجيد).
طبق فوري
في عام 1957، أصبح آندو، البالغ من العمر 47 سنة، مخترعاً للأغذية. كل يوم ولمدة عام، كان يتوارى عن الأنظار في سقيفة خشبية بحديقة منزله الخلفية للقيام بالتجارب. وأخيراً ظهر مع منتج غذائي يكاد يكون متطابقاً في شكله مع قرميد مستطيل من المعكرونة سريعة التحضير، أصبحت تتكدس الآن على رفوف المتاجر الكبيرة حول العالم. سمى اختراعه Chikin Ramen (تشيكين رامين)، وبدأ تسويقه تحت اسم الشركة الجديدة التي أسسها لهذا الغرض: Nissin Foods. حذت شركات أخرى حذوه باختراعات مماثلة. كان صانعو الرقائق الفورية يتمتعون بالذكاء، فحولوا القمح زهيد الثمن والمتوفر بكثرة من الولايات المتحدة، إلى منتج يمكن بيعه بسعر أعلى في المتاجر الكبرى المنشأة حديثاً.
لقد شكل اختراع وجبة النودلز الفورية نقطة تحول في تاريخ اليابان، عكس صعودها من دولة تكافح من أجل الغذاء إلى قوة اقتصادية حديثة. وبلغت أوجها عندما بدأت الأسر اليابانية تقتني المنتجات الجديدة. أتاحت الغلايات الكهربائية طهي وجبات النودلز الفورية بسهولة، وسوقت الإعلانات التجارية التي أصبحت تبث في منازل الطبقة المتوسطة حديثاً عبر التلفزيون المنتجات الغذائية. وفي عام 1956، كان 1 % فقط من الأسر اليابانية تملك جهاز تلفزيون. بعد أربع سنوات، قفز العدد إلى النصف تقريباً.
نجحت الإعلانات البهيجة في تلك الفترة في الترويج لأطعمة جديدة ومناسبة، بما في ذلك القهوة الفورية، والوجبات المجمدة، ومكعبات الكاري. وركزت بعض العروض الترويجية التلفزيونية الأولى من شركة (نيسين) على الأمهات المرضعات، والعاملات، وربات البيوت الكبار في السن اللواتي كن يكتشفن سهولة الاعتماد على المنتجات الغذائية ذات الإنتاج الضخم. ولم يعد النظام الغذائي الياباني يعتمد كلياً على الأرز ومشتقاته. شبه بعض المراقبين انتشار النودلز في اليابان بشعبية البيتزا المرتفعة في العديد من الدول الغربية.
 في عام 1971، عزز آندو اختراعه بمنتج آخر جلب له نجاحاً عالمياً: كأس النودل، كان عازماً على تعزيز المبيعات في الولايات المتحدة، لكن المستهلكين الأمريكيين في ذلك الوقت لم يكن لديهم الأوعية العميقة اللازمة للنودلز. وعند عودته من الولايات المتحدة إلى اليابان، شد انتباه آندو حاوية من قشرة الجوز، فألهمته فكرة صنع تعليب مماثل لوجبة النودلز: كؤوس النودلز الجديدة سرعان ما اختفت من الرفوف. ونما الطلب على النودلز في الثمانينات، في آسيا ثم في الولايات المتحدة وأوروبا، وبلغت المبيعات حوالي 15 مليار وجبة سنوياً في جميع أنحاء العالم في عام 1990. واليوم يقترب هذا الرقم من 100 مليار حصة.
ومع انتشارها في جميع أنحاء العالم، بذل المسوقون قصارى جهدهم حتى تناسب النودلز الأسواق المتخصصة، مع دعمها بمذاقات جديدة وإضافات لتتناسب مع المذاقات المحلية. في تايلندا، كانت نكهة الكاري الأخضر مطلوبة. وفي المكسيك، يؤكل النودلز بالليمون الحامض والصلصة. حتى في اليابان كانت هناك عمليات تطوير مثيرة للاهتمام، يمكن لمستهلكي النودلز تذوقها بطعم الدجاج. وفي باكستان يسوق النودلز بنكهة البيتزا.
وجبة في دقائق
بالنسبة لعدد كبيرة من سكان الكوكب، النودلز ضرورة اقتصادية. تعد الصين حتى الآن أكبر سوق للعجائن سريعة التحضير في العالم، مع ارتفاع الطلب المستمر بين العمال الذين غادروا منازلهم في الريف للعمل في المصانع والمدن الكبرى. وعلى مدى ثلاثة عقود، بين عامي 1978 و2009، بلغ النمو الاقتصادي للصين 9.5 % في العام، وفقاً للبنك الدولي. كان هذا أسرع نمو في التاريخ الاقتصادي، لكنه اعتمد على العمال المهاجرين وبأسلوب حياة مؤقت. إذا كنت عاملاً بسيطاً في الصين، فإن النودلز سريع التحضير يعد الوجبة المناسبة.
اليوم، يبدو أن (نمط حياة النودلز) أصبح جزءاً من الماضي في الصين. بلغت المبيعات ذروتها بأكثر من 50 مليار حصة سنوياً في عام 2010، بعد أن أعلن الاقتصاد الصيني عن تحقيق مكاسب قياسية، لكنه بدأ يتراجع كل عام منذ ذلك الحين. في الواقع، لقد انخفض بنسبة 16 % في العام الماضي وحده. لماذا؟ في 2011، كشفت أرقام الحكومة الصينية أن نصف عمال المصانع في البلاد يعيشون في المهاجع. وبعد مرور خمس سنوات، انخفض هذا المعدل إلى 13 في المئة فقط. لقد انتقل نحو 60 % من هؤلاء العمال إلى مساكن مستأجرة مجهزة بمطابخ، مما سمح لهم بطهي ما يريدون في كل وقت - لذلك قلت حاجتهم إلى وجبات النودلز سريعة التحضير. وتحول العديد من الصينيين إلى تناول الأطعمة الصحية، تماشياً مع الدعوات العالمية المتزايدة من أجل اتباع أغذية صحية. كما تتعرض الشركات الغذائية العملاقة لضغوط من المستهلكين لتحسين منتجاتها، ومن بينها شركة آندو (نيسين).
وفي متحف مخصص لموموفوكو آندو واختراعه في مدينة يوكوهاما اليابانية؛ لا توجد إشارة إلى الانتقادات التي تعرض لها اختراعه في السنوات الأخيرة. يقف تمثال آندو إلى جانب شخصيات تاريخية مشهورة: بيتهوفن، ماري كوري، غاليليو. فهل يستحق مبتكر النودلز مكانة شرف بين أعظم الشخصيات في العالم؟ مهما تعددت الإجابات، يؤكد لنا الواقع أن النودلز أصبح طعاماً عالمياً مناسباً، تلك الوجبة الخفيفة الساخنة التي تكون دائماً في متناول الأشخاص الذين يفتقرون إلى المال أو الوقت.
هل هناك طعام أفضل من النودلز؟ من المحتمل جداً. لكن هناك أسباب ليحافظ اختراع موموفوكو آندو على مكانته لأكثر من 60 عاماً. طالما هناك أشخاص يعيشون في المهاجع، أو يتسوقون في المتاجر، أو يقدمون وجبات الطعام في السجون، سيكون النودلز خيارهم الأول.


ذو صلة