كانت مسرحيات الكاتب الفرنسي موليير (1622-1673 ) هي اللبنة الأولى في مسرح الواقعية، فقد استخدم قلمه الجريء في إبراز كل عيوب مجتمعه الفاسد، وتحديد دور رجال الدين والنبلاء في هذا الأمر. ومع سيطرة قوى الرجعية والتقاليد البالية؛ كان قلمه شديد الجرأة في تصوير هذه العيوب، وهدم التقاليد الرجعية، وأصنام التعفن والفساد. وبعد رحيل موليير لم يأخذ كاتب مكانه حتى كان النصف الأخير في القرن التاسع عشر؛ عندما حمل إبسن لواء الواقعية.
كان إبسن صاحب مدرسة خاصة، ورائداً للمذهب الرمزي في المسرح، ونموذجاً لكتاب المسرح الطبيعي. فقد كان يهدف من خلال كتاباته الجريئة إلى معالجة موضوعات اجتماعيه تؤرق وتفسد المجتمع الأوروبي، كما كانت الحرية مشكلته الجوهرية التي حارب من أجلها، فلفت أنظار المفكرين في أنحاء العالم، وأيقظ الأفراد الذين أيدوه في كل قضية اجتماعية تطرق إليها. ووقف إبسن في وجه المعارضين لأسلوبه الجريء الذي غاص داخل القضايا الاجتماعية، وتبنى الثورة الإنسانية على كل ما يقف حائلاً بينها وبين التقدم، فقد كانت مسرحياته من أهم أسباب تحرر العالم، وتخلصه من القيود والعبودية والظلم والفساد.
ولد هنريك يوهان إبسن في مدينة سكارين النرويجية في 20 مارس 1828 لأسرة ثرية، لكن والده تاجر الأخشاب أصابه الإفلاس في عام 1836، فكان على إبسن التأقلم على الحياة الصعبة التي واجهتها الأسرة، ثم رحل والده عام 1843، وفي العام 1848 اضطر للعمل في صيدلية في الوقت الذي سيطرت عليه رغبة الكتابة والقراءة في أعمال الأدباء الكبار كشكسبير وموليير ولامارتين وجورج ساند وأوجين سكريب وكير كجارد وهيبل.
في عام 1850 كتب إبسن أولى مسرحياته (كاتالينا)، المسرحية الشعرية التي استوحاها من تاريخ النرويج، وكتبها متأثراً بشعر الفروسية والحب وبالمناخ الثوري الذي ساد القارة الأوروبية في تلك الفترة. لقد اضطر إبسن أن يستخدم اسماً مستعاراً عندما جاء إلى العاصمة النرويجية كريستيانا (أوسلو) عندما كان في الثانية والعشرين من عمره.
في العام التالي 1851 تلقى إبسن عرضاً للعمل مساعداً في مسرح الشمال في برجن، ثم أصبح مديراً لمسرح كريستيانا من عام 1858 حتى عام 1862، وخلال هذه الفترة كتب إبسن مسرحية (عربة المحارب)، ثم (السيدة إنجر من أوستراد)، كما كتب مسرحية تتناول موضوعاً من العصور الوسطى بطريقة رومانسية شاعرية مليئة بالحديث عن أمجاد النرويج السابقة، وقد لاقت هذه المسرحية (ملك الجليل) قدراً من النجاح. ثم يسافر إبسن منحة إلى ألمانيا وإيطاليا عام 1863، بعد أن كتب مسرحية (براند)، وحصوله على معاش شهري من الدولة بعد أن لفت الأنظار إليه بأسلوبه الجديد في معالجة قضايا المجتمع ونجاحه في تقديم أعمال مسرحية ساهمت في تجديد الأدب المسرحي في أوروبا الذي كان قد هبط إلى أدنى مستوياته، قبل أن ينجح إبسن في الثورة على الدراما التي كانت تقدم بلا روح أو معنى، فقد كان الهدف الأساسي لهذه الدراما الشكل والأسلوب الميكانيكي التقليدي الذي سار عليه المسرح الأوروبي لسنوات طويلة.
برع إبسن في استخدام لغة تبدو طبيعية بعد أن تخلص من المسرح الذي يقدم كل الأشخاص كشعراء فيظهرون كالآلهة. لقد اعتمد في مسرحه الجديد على الإيمان العميق بقيمة النفس البشرية، وقدرة الفرد على تحقيق التطور والإصلاح والإنقاذ لمجتمعه؛ إذا توافرت الحرية بشكل حقيقي، كما اعتمد إبسن على قيمة الحب الحقيقي البعيد تماماً عن النفاق والتزلف.
تميزت شخصيات إبسن بالواقعية، فهي شخصيات تنبض بالحياة، نقابلها ونصطدم بها في الحياة اليومية، نكرهها وننبذها أو نتفاعل معها، كالزوجة المقهورة، أو الزوجة الخائنة، أو العشيق الذي يدمر أسرة بكاملها، والموظف الفاسد، أو المسؤول المرتشي، أو رجل الدين الذي يفعل في الخفاء أشياء يحاربها في العلن، أو السياسى المنافق البارع في مخطابة الناس.. وغيرها من الموضوعات التي يقدمها إبسن على مسرحه، راسماً الشخصيات المتصارعة دون أن يصل إلى نهاية منتظرة أو تقليدية، بل يترك للمشاهد الحرية في اختيار النهاية.
ابتعد إبسن عن وطنه ما بين عامي 1863-1891 بسبب الهجوم إلى تعرض له، وثورة المحافظين على أعماله، فقد تعاملوا معها بعداء شديد على الرغم من أنه كان يكشف الكذب والنفاق والفساد داخل المجتمعات، ففي مسرحية (بيت الدمية) يتناول حياة زوجية قائمة على الكذب، وكذلك مسرحية (الأشباح)، ومسرحية (أعمدة المجتمع)، ومسرحية (عدو الشعب) التي يقدم خلالها شخصية عادية لإنسان يسعى إلى الوصول إلى الحقيقة؛ ولكنه يواجه مجتمعاً قائماً على الكذب.
يرى النقاد أن إبسن واحد من أعظم الكتاب المسرحيين في الأدب الأوروبي، وربما أعظمهم بعد الكاتب الإنجليزي وليم شكسبير (1564-1616)، ففي بداياته اتجه إبسن إلى كتابة المسرحيات الطبيعية، بسبب سيطرة المذهب الطبيعي على الحياة الأدبية المسرحية؛ لكن إبسن دون غيره من الكتاب المعاصرين له لم يهبط قلمه إلى مستوى المسرحيات الأخرى التي غاب عنها الإقناع والمنطق؛ لأنها اعتمدت في المقام الأول على الحبكة والإثارة وخبرة الممثلين والحوار التقليدي المبني على المثالية والجمل المحفوظة. وكانت الأعمال المسرحية قبل إبسن تعتمد على تقديم النفس البشرية بلا رتوش، وتسيطر عليها الغريزة على حساب القيم والأخلاق، ثم جاء إبسن بالفكرة أو المشكلة الاجتماعية، وجعلها هي البطل الحقيقي للعمل المسرحي؛ بل جعلها قضيته الشخصية، ومن أجلها قام بتعرية سطح المجتمع من أجل الوصول إلى قاعه، معتمداً على البناء المسرحي الراسخ والحوار الواقعي ورسم الشخصيات بعناية فائقة، مع الاحتفاظ بعنصر الإثارة طوال العمل، بعد أن يقوم بتعديل حبكة المسرحية.
قدم إبسن أهم أعماله خلال وجوده في ألمانيا وإيطاليا. وخلال 27 عاماً قضاها بعيداً عن وطنه؛ كانت شهرته ومكانته في صعود، بل إنه بات الكاتب المسرحي الأفضل في أوروبا. وفي عام 1891 عاد إبسن إلى وطنه، فتم استقباله بحفاوة كبيرة، في وجود زوجته سوزانا داي ثيروزين التي تزوجها عام 1858، وأنجبت له ابنه الوحيد (سيجارد). وفي عام 1898 أقيم حفل على شرف الكاتب الكبير للاحتفال بميلاده السبعين، وتم استعراض أعماله المسرحية التي بلغت 26 مسرحية. بداية عام 1900 تعرض إبسن لعدد من السكتات القلبية جعلته غير قادر على الكتابة، بل أصبح غائباً عن الوعي معظم الوقت، ليرحل في يوم 23 مايو 1906، فأقامت له الحكومة النرويجية جنازة مهيبة.
لم يكن إبسن هو مبتكر المذهب الواقعي في الأدب، كما يزعم كثيرون؛ ولكنه كان صاحب أقوى دفعة بهذا المذهب نحو الحياة المتحررة. وقد اختار إبسن خشبة المسرح ليكون معرضاً لمذهبه الجديد، فقام بتصوير أكبر رذائل عصره، وهو النفاق، وشن عليه حملة شعواء، ولم يترك لوناً من ألوان النفاق والكذب والوصولية والفساد إلا وتطرق إليه بقلمه.
اختار إبسن النماذج الإنسانية العالمية الطبيعية، ولزم في مسرحياته وحدة الزمان والمكان، مع وجود البناء المسرحي شديد الدقة والإحكام، واستخدام البداية العاصفة في المسرحيات التاريخية، والهدوء في المسرحيات الاجتماعية، دون أن يفقد الحوار ميزة التشويق، أما الحبكة فهي عنصر أساس وجوهري للغاية في مسرح إبسن الذي يحرص على اعتماد العمل على الزمان والمكان والحوار عناصر أساسية.
كتب إبسن بجانب أعماله المسرحية نحو 300 قصيدة، لكن شهرته جاءت من خلال كتاباته الاجتماعية، وصنفه النقاد كاتباً اجتماعياً بامتياز، ولقب بأبي المسرح الاجتماعي المعاصر. ويراه الكاتب الإيرلندي برناردشو (1856-1950) (منشئ مسرح القضية الاجتماعية). كما سار على نهج إبسن (برناردشو في إنجلترا، وبربيه في فرنسا، وهوبتمان في ألمانيا). بينما تأثر إبسن بشكسبير بجانب سكريب، وهوبرج، وهيبل. وسحرته إيطاليا وألمانيا؛ لكنه لم ينس وطنه النرويج.
تفوق إبسن على كل من سبقوه -باستثناء شكسبير- في قدرته على استخدام الحبكة والحيل المسرحية والتشويق، دون أن يفقد العمل المسرحي قيمته واتزانه، أو يبتعد من الهدف الأساسي. فالحكاية في أعمال إبسن تبدأ من النهاية بعرض المشكلة الاجتماعية، من خلال حدث يعيد طرح المشكلة، ثم تتسلسل أحداثها بالعودة للبداية، والبحث عن حلول للقضايا التي يتناولها. كما أن البطل في أعمال إبسن يظل منفرداً بسلوكه وطباعه وتركيبته الشخصية الشريرة غالباً، أو شديدة الإنسانية. ويحاول من خلال شخصياته رسم وتحديد الصراع القائم بين البطل والشخصيات المقابلة كالزوج وزوجته أو العشيق وعشيقته. كانت كتابات إبسن تصرخ وتثور ضد النفاق والكذب، وترفض القيود والعبودية والظلم، وحتى اليوم ما تزال أعماله تحظى بمكانة عظيمة في المسرح العالمي.