1
في فضاء الغناء العربي، ثمة نجوم ساطعة، تتلألأ أعمالها، ويذيع صيتها في الآفاق، منهم محمد عبدالوهاب، وأم كلثوم، وعبدالحليم حافظ، وفريد الأطرش.. ومنهم طلال مداح، الذي كان له دور كبير، في نهضة الطرب العربي الأصيل في فترة أوجه، تعاون مع كبار الموسيقيين، وأمراء الشعر، وأحيا العديد من الحفلات الغنائية، في ربوع الوطن العربي. ولم يكن طلال مدَّاحاً للغناء والطرب وكفى، بل كان موسيقياً من الطراز الأول، حيث لحن للكبار من مطربي عصره، وأصدر مجموعة من المقطوعات الموسيقية، التي تمثل علامة بارزة في سجل الموسيقى العربية. قال عنه فنان العرب محمد عبده: «طلال هو رجل الأغنية السعودية الأول، وهو الأصل ونحن نتفرع منه».
2
في يوم الإثنين غرة شهر رجب عام 1359هـ، الخامس من أغسطس/آب عام 1940م، ولد في مدينة مكة المكرمة، طلال بن عبد رب الشيخ بن أحمد بن جعفر.. تعود أصوله إلى آل جابر، في حضرموت، أما (مداح)، فنِسبة إلى علي عبدالحميد مدَّاح، زوج خالته، الذي تولاه بالرعاية، عقب وفاة والدته. أحب الفن مُنذ نعومة أظافره، وشجعه على ذلك صديق طفولته محمد رجب، كان يحب أن يسمع منه الأغاني المشهورة آنذاك. انتقل للطائف، والتحق بمدارسها، ولنقاوة صوته، كان يُسند إليه تقديم الحفلات المدرسية. تعرَّف على زميل له، يُدعى عبدالرحمن خوندته، كان من هواة الموسيقى، ويجيد العزف على العود، تشاركا معاً في تقديم حفلات سمر للأصدقاء، حيث كان طلال يُغني، وعبدالرحمن يعزف. وفي العام 1378م، حصل طلال على أول مبلغ مالي، نظير إحياء حفل غنائي،وكان المبلغ 30 ريالاً، وفي هذه الفترة اتسم غناء طلال باللون الصنعاني والحجازي القديم، والطابع الفلكلوري، ومنها (شفت القمر في المرايا). وكان قد دُعي إلى إحدى حفلات الزواج، التقي خلالها بعدد من أهل الفن المعروفين آنذاك، من أمثال الموسيقي طارق عبدالحكيم، وعبدالله المرشدي، وعبدالله محمد. وكانت هذه المرة الأولى التي يري فيها وجهاً لوجه فرقة موسيقية كاملة، وكان من بين الحضور مدير الإذاعة الأستاذ عباس فائق غزاوي الذي انبهر بصوت طلال، وشجَّعه للتسجيل بالإذاعة في جدة، وكانت هذه الخطوة الأولى على سلم الشهرة، حيث سجل في العام 1380هـ أغنية (وردك يا زارع الورد)، وقد لحنها بنفسه، وعند إذاعتها استقبلها المستمعون بإعجاب شديد، ومن ثم كانت تُذاع خلال اليوم الواحد مرات عديدة، وبعد نحو الشهر من تسجيل هذه الأغنية، شارك طلال في الحفل الثاني للإذاعة، بأغنية (أبها)، من غنائه وتلحينه.
3
في العام 1382هـ، سافر طلال إلى بيروت، بصحبة حسن دردير، ولطفي زيني، وكانت هذه محطة مهمة في تاريخه الفني، حيث قام بتسجيل مجموعة من الأغاني، برفقة فِرقة عبود عبدالعال الموسيقية، منها أغنية (بشويش عاتبيني)، و(سويعات الأصيل)، و(أهل الهوى)، من ألحانه، كما سجَّل أغنية (كحيل الطرف)، بطريقة الدويتو، مع المطربة اللبنانية نزهة يونس، وغيرها من الأغاني، التي لحنها له عمر كدرس، وعبدالله محمد، وفوزي محسون.. وغيرهم.
وفي العام 1384هـ، شارك الفنان لطفي زيني، بتأسيس شركة أسطوانات (رياض فون)، التي ظلت تمارس نشاطها حتى العام 1390م، ثم أغلقت مع ظهور أشرطة الكاست بديلاً للأسطوانات.
4
وفي العام 1384هـ، الموافق عام 1965م، خاض طلال أول تجربة في مجال الدراما السينمائية، حيث شارك الفنانة صباح ورشيد علامة وسميرة بارودي وهند طاهر وعلياء فخري، بطولة فيلم (شارع الضباب)، والذي يُمثل محطة مهمة أخرى في ذيوع صيته بالعالم العربي، حيث أجاد تمثيل دوره، وغنى عدداً من أغانيه، التي وظِّفت على نحو إبداعي، في الارتقاء بحوار وسيناريو الفيلم، وهي من تأليف ميشال طعمه، وتلحين كل من محمد حسن، وغازي علي.
ولم يكن (شارع الضباب)، تجربة التمثيل الوحيدة لطلال، حيث كان له تجربة أخرى مهمة في الدراما التليفزيونية، بالمشاركة في بطولة مسلسل (الأصيل)، مع لطفي زيني، وحسن دردير، ومحسن سرحان، ونادية صادق، وكانت بداية عرضه عام 1391هـ، وهو يصنف كواحد من أهم الأعمال في تاريخ الدراما العربية.
5
ومن القاهرة، واصل طلال تألقه في الغناء والطرب، وأثبت جدارته على مسارح القاهرة، التي كانت تنتظم حفلاتها لكبار المطربين المصريين والعرب، من أمثال أم كلثوم، وعبدالحليم حافظ، ومحمد عبدالوهاب، وفريد الأطرش، وأخته أسمهان. وشهد العام 1396هـ، انطلاق أغنيته الشهيرة (مقادير)، والتي مطلعها: مقادير يا قلب العنا مقادير.. ويش ذنبي أنا.. مقادير.. وتمضي حياتي مشاوير.. وأتمنى الهنا. لقد كان لها صدى واسع، وصارت من أكثر الأغاني التي تُذاع، وتتردد بين الجماهير في القاهرة، بل رددها وتغنَّى بها كبار المطربين، ومنهم عبدالحليم حافظ، ووردة الجزائرية.. وغيرهما، ومازال صداها يتردد إلى الآن بين عدد كبير من المطربين، وهي من كلمات الشاعر الكبير الأمير محمد العبدالله الفيصل، وتلحين سراج عمر.
ولحَّن له كبار الموسيقيين في القاهرة، كما لحن هو لكبار مطربيها، كما سنبيِّن بعد قليل، ولم تحظَ (مقادير) وحدها، بالشهرة الواسعة في القاهرة؛ ولكن حظيت بذلك أيضاً، أغاني طلال الأخرى، مثل (وعد)، و(زمان الصمت)، و(أغراب)، و(غربة وليل).. وصار طلال خلال فترة الثمانينات، من أهم المطربين العرب، الذين تُنظم لهم حفلات، ليس في القاهرة فحسب، بل في سوريا ولبنان والجزائر وتونس والمغرب.
6
كان من أبرز سمات حفلاته الغنائية، أن تعزف الفرقة الموسيقية في افتتاحية الحفل مقطوعة موسيقية له، والتي ما زالت إلى الآن، تقدم في الإذاعات العربية، وتبَث مُقدِّمة لكثير من البرامج التلفازية، ومن أشهر المقطوعات التي تؤكد مدى براعة طلال في التلحين الموسيقي، مقطوعة (ليالي البرازيل)، ومقطوعة (السابعة لمن)، وهو يصنف كأول خليجي يصدر ألبوم تقاسيم على (آلة العود)، حيث تميز بالعزف عليها، إلى جانب عزفه على آلات الأورج والكمان والجيتار.
7
ارتبط طلال، من خلال أعماله المتنوعة، بالكثير من نجوم الطرب، والموسيقى العربية، إما بالتلحين لهم، أو التلحين له، فقد لحن لفايزة أحمد، وسميرة توفيق، وذكرى، وسميرة سعيد، ونجاح سلام، ووردة الجزائرية، وأنغام، وهيام يونس، وهالة هادي، ورجاء بلمليح، ومني عبدالعزيز، وعتاب، وعبادي الجوهر، وعبدالكريم عبدالقادر، وعبدالمجيد عبدالله، وراشد الماجد، ومحمد عمر، ونبيل شعيل، ووعد، ونايف البدر.. وغيرهم. ولحن له أغنية (منك يا هجري دائي)، وأغنية (ماذا أقول؟) موسيقار الجيل محمد عبدالوهاب، الذي أطلق عليه لقب (زرياب الغناء العربي). ولحن له محمد الموجي أغنية (لي طلب)، وأغنية (ضايع في المحبة). وبليغ حمدي لحن له أغنية (يا قمرنا)، وأغنية (يا ملاك الحسن)، من كلمات المنتظر. وكتب له لحن أغنية (عز اغترابي)، الدكتور إبراهيم رأفت. ولحن له الدكتور جمال سلامة أغنية (يا حبيب العمر). وممن لحنوا له أيضاً: غازي علي، وسراج عمر.. وغيرهم الكثير.
أما من كتبوا أغانيه، فهم أيضاً كثر، منهم الشاعر الأمير بدر بن عبدالمحسن، والأمير الشاعر عبدالله الفيصل، والأمير الشاعر عبدالمحسن بن عبدالعزيز، والأمير الشاعر محمد العبدالله الفيصل، والأمير الشاعر خالد الفيصل، وفتى الشاطئ، والشاعر محمد الأحمد السديري، كما تغنى بكلمات أمير الشعراء أحمد شوقي، والشاعر فالح، وإبراهيم خفاجي، وفائق عبدالجليل، وثريا قابل، وساري، وخالد زارع، وعبدالكريم خزام السليماني، والدكتور سعود بن عبدالله.. وغيرهم.
8
وعلى صعيد الأوبريت، والأغنية الوطنية، كان طلال حاضراً بقوة، وحريصاً على أن يكون مع رفيق دربه فنان العرب محمد عبده، في غير مرة، أولها في أوبريت (مولد أمة). ومن المهرجانات الوطنية التي دوام على الحضور إليها، منذ بداية انطلاقها، مهرجان الجنادرية، حيث قدم أوبريت (عز الوطن)، وغيره من الأوبريتات، والأغاني الوطنية، على مدار الدورات التالية للمهرجان، وفي العام 1988م، كان مشاركاً في الاستعراضات الافتتاحية لكأس العالم للشباب، التي استضافتها المملكة، حيث قدم الأوبريت الافتتاحي بمفرده، ومن أشهر أغانيه الوطنية (وطني الحبيب)، و(أفديك يا وطني)، (وشبل الأسود)، و(عشب الفخر)، وأوبريت (ما ننساك يا أمير الشباب).. وغيرها الكثير.
9
لقد كان طلال شلاَّلاً من العطاء الفني، الذي ما زال محفوراً في تاريخ الغناء والموسيقي العربية، وأعماله المتنوعة تقدر بالمئات، إن لم تتجاوز الألف. لقد تغنى بالصبح والليل والحب والجمال والوطن، وتغنى بالصحراء والبادية والماء والشجر، واستطاع بحنجرته القوية، أن يجمع الكثير من الإيقاعات، منها الحدري، والسامري، والمجرور، وقدم الدانات، بطريقة احترافية غير مسبوقة، وكان له دور كبير في تطوير الأغنية الخليجية، حيث كان أول من قدم الأغنية ذات المقاطع الطربية العريضة، كما مزج بين الشرقي والغربي في الموسيقى، ظهر ذلك جليلاً في أغاني (شيلي اللثام)، و(وعد)، و(إلى حد ما)، وكان يجمع بين تجربتين في الغناء، وهما تجربة الأغنية الطويلة، وتجربة الأغنية القصيرة. تأثر به كثير من نجوم الطرب العربي، وعددوا أفضاله في الغناء والموسيقى، قال عنه فنان العرب محمد عبده: «طلال يستعصي على الغياب، ولا يمكن أن يغيب، ما غرسه في أرواحنا إحساس أبلغ وأعمق من الموسيقى». نال بجدارة العديد من الألقاب، منها: قيثارة الشرق، وصوت الأرض، والحنجرة الذهبية، وبلبل الطرب، قال عنه الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن: «لقد تجاوز الفن الغنائي السعودي، بفضل صوته، ليصل للعالم العربي كله، وتميزه وتفرّده ليس فقط في صوته اللين الدافئ القوي، إنما في شخصيته البسيطة الطيبة، وأفكاره وفلسفته الخاصة للأشياء». وأضاف الأمير الشاعر محمد العبدالله الفيصل: «طلال مداح تاريخ، وتاريخ الأغنية السعودية كانت بداياته الفعلية على يد طلال مداح، واشتهرت بفضل طلال مداح، رغم محاولات من سبقوه».
ومن محاسنه، أنه استطاع تقديم أغانيه بمختلف اللهجات العربية، ونجح في ذلك بشكل كبير، وقد نال التكريم بالعديد من الجوائز والأوسمة، حيث قلَّدة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز، رحمه الله، وسام الاستحقاق، كما قلده الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة وساماً.. وتم تكريمه غير مرة، في العديد من المهرجانات، ومنها مهرجان الأغنية العربية.
10
على خشبة مسرح المفتاحة، في أبها، جنوب المملكة، مساء الثامن من أغسطس/آب عام 2000م، وبينما كان طلال يقدم فقرته الغنائية، المتضمنة أغنية (الله يرد خطاك)، إذ به يسقط مغشياً عليه، حاول الأطباء إنقاذه، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل، خصوصاً أنه كان يعاني في أخريات حياته، من مشاكل في القلب والصمامات، وسبق أن أجريت له عملية قسطرة، ونصحه الأطباء بالراحة، إلا أنه خالف نصائحهم، وأراد أن يكون حاضراً، مشاركاً في إسعاد أبناء وطنه.
نقل جثمانه إلى مكة المكرمة، وصلي عليه في المسجد الحرام، ودفن في مقابر المعلاة.
وما زالت سيرته ومسيرته، تحظى بالتقدير والاحترام، ففي الدورة السادسة والعشرين لمهرجان الموسيقى العربية الذي انطلق في دار الأوبرا المصرية؛ كُرِّم طلال، ونظمت ندوة كبرى، تحت عنوان (طلال مداح فنه وموسيقاه)، شارك فيها عدد كبير من النقاد والموسيقيين العرب، منهم المايسترو أمير عبدالحميد، والدكتور سعد محمد حسن، والمايسترو خالد فؤاد.. وغيرهم. وقد أجمع الحضور، على سماحة ونبل شخصية طلال، وعذوبة صوته، وثراء أغانيه وموسيقاه التي لعبت دوراً كبيراً في تطوير الغناء والموسيقى العربية.