موسيقى البلوز موسيقى فريدة وذات رونق خاص، انبثقت نتيجة اندماج الثقافتين الأفريقية والأمريكية، فالأثر الأفريقي صارخ فيها، ومتشعب خلالها. كما كان لها تأثير كبير في الموسيقى الأمريكية الشعبية، فضلاً عن أنها أضحت جزءاً لا يتجزأ من التراث الموسيقي الإنساني.
ولدت موسيقى البلوز (Blues) بوصفها شكلاً من أشكال الفن الأفريقي الأمريكي المتجذر في جنوب الولايات المتحدة والمنطلق منها. وتعتبر الجسر الذي يربط بين مدرستين من مدارس الموسيقى الأمريكية: الجاز، والروك آند رول. ومن الخصائص الأصيلة للموسيقى الأفريقية التي انتقلت إلى موسيقى البلوز: الارتجال، والتركيز على الإيقاع أكثر من توافق الأنغام، واستعمال نبرة مميزة أو تغيير حدة الصوت للتعبير عن معنى مختلف. وكذلك ترديد المجموعة وراء المغني، واستخدام الآلات المصاحبة التي تشبه الأصوات الآدمية للتركيز على مقاطع معينة من كلمات الأغنية. وتُؤدى موسيقى البلوز التقليدية في شكل 12 فاصلة موسيقية، تنقسم إلى ثلاثة مقاطع، ويتكون كل مقطع من أربعة فواصل موسيقية. غير أن الكثير منها تتضمن خليطاً من النغمات المرتجلة في بنيتها.
وحينما يتم ذكر موسيقى البلوز فإنها تستدعي المزاج الحزين لكثير من الأغاني المترعة بالعواطف الجياشة، والمشاعر الصادقة، والآمال العريضة. وكما قال الفنان الشهير (ليون ريدبون): البلوز ليست سوى رجل طيب يشعر بالحزن. وكثيراً ما يلاحظ في هذا النوع من الموسيقى مقاطع السولو. وهي العزف على أحد الآلات لفترة مطولة وبطريقة تشعرك بأحاسيس العازف/المغني. وتقول إلين سوثرن Southern Eilee مؤلفة كتاب (موسيقى الأمريكيين السود): إن هناك ثلاث حالات كان يغني فيها السود هذا النوع من الأغاني. وهي أثناء المناسبات الدينية، وفي مواسم الحصاد، وفي أثناء عمل الرجال والنساء في الحقول. وصحب هذا الغناء التعبير عن الأحاسيس والمشاعر الشخصية، وذلك بجرأة غير عادية في صورة صيحات تحمل معاني الحزن والأسى والمعاناة التي أثخنتهم بجراح الكآبة، معبرين بذلك عن واقعهم المرير في تلك الفترة.
وتعتمد موسيقى البلوز على كلمات وأغانٍ وأناشيد وترانيم أفريقية روحانية، وتقاليد شعبية. وعادة ما تدور كلماتها حول القصص المتعلقة بالفقر والفقد، والحب والعنف، والعلاقات الاجتماعية والعنصرية.. وغيرها من المعاني والمشاكل المتعلقة بالمجتمع الأمريكي. وتتألف معظم كلمات أغاني البلوز من مقاطع شعرية يتكون كل منها من ثلاثة أسطر. ويكون السطر الثاني من كل مقطع تكراراً للسطر الأول، ويعبّر السطر الثالث عن جواب السطرين الأولين. وتعكس معظم الكلمات الشعرية لموسيقى البلوز الوحدة والحزن، ويعكس البعض الآخر ردود الفعل الساخرة والتحدي لمشاكل الحياة.
مرحل مهمة على طريق البلوز
لا يُعرف على وجه اليقين من الذي قام بإدخال مصطلح The blues إلى قاموس اللغة الإنجليزية. على أي حال؛ تعتبر ولاية ميسيسيبي مسقط رأس موسيقى البلوز، وقد أنجبت الولاية العديد من الموسيقيين المشهورين، ومن بينهم: شارلي باتون، وروبرت جونسون، وهاولين وولف، ومادي واترز، وبي. بي كينج. وجاء معظمهم من سهل الفيضانات المعروف بدلتا الميسيسيبي الذي يمتد مسافة 200 ميل على طول مجرى نهر الميسيسيبي، من ممفيس بولاية تينيسي جنوباً إلى فيكسبرج بولاية ميسيسيبي. وتتباهى هذه المنطقة من ولاية ميسيسيبي بأنها تضم ثلاثة متاحف متواضعة لموسيقى البلوز.
ولقد تأثرت نشأة موسيقى البلوز بعدة عوامل، منها: التحرر من الاستعباد؛ لأن العبيد قبل التحرر لم يملكوا وقتاً لغير العمل الشاق والنوم العميق، كما لم يكن لهم وقت لتعلم العزف أو إيجاد أسلوب غنائي فريد، ولم يملكوا آلات موسيقية أو قدرة على الصنع/الشراء؛ ولكن بعد التحرر استطاعوا التنقل بين الولايات، وتحسنت نسبياً الحالة الاقتصادية، فحصلوا على آلات، وتعلموا العزف، وإيجاد سلم موسيقي فريد. وحافظوا على طريقة الغناء القديمة أيام الاستعباد، فاستمرت الشكوى والآهات، واستمرت نفس موضوعات الكلمات وصياغتها وتلحينها.
وفيما بين 1870-1900 امتلأت الشوارع في جنوب أمريكا بالأفارقة الأمريكيين الأحرار الذين خرجوا للبحث عن أعمال أخرى غير الزراعة. ومع بدء حياتهم الجديدة تغنوا بأغاني البلوز، ورقص على ألحانهم الرجال والنساء عشية أيام الآحاد، وأحيوا الحفلات الصاخبة. وبدأت موسيقى البلوز تحتل مكانتها وشعبيتها، ونجحت في غزو المجتمع الأمريكي بأسره، وأصبحت محببة للناس. وبدأ قائد إحدى الفرق الموسيقية واسمه و.ك.هاندي بتطبيع نغمات الزنوج الفولكلورية التقليدية في شكل أغانٍ كسبت رواجاً شعبياً كبيراً. ومن أمثلة قطعه الموسيقية: ممفيس بلوز 1912، وأول تسجيل لها كان عبارة عن ثلاث دقائق فقط، وسانت لويس بلوز (1914). كما اكتسبت آلات العزف الخاصة بموسيقى البلوز شهرة واسعة، خصوصاً أعمال العزف على البوق للويس آرمسترونج. وفي الثلاثينات أصبح نموذج البوجي ووجي للعزف على بيانو البلوز شائعاً ورائجاً، كما تعتمد موسيقى البلوز على آلة الجيتار، وعلى ما يسمى blue nots، وهي النوتات المنخفضة (أساس موسيقى البلوز والجاز). وهذا الاسم أخذته واحدة من أهم وأشهر شركات الإنتاج Blue Note، وتخصصت في إنتاج البلوز والجاز. ولها فضل كبير في نشر هذه الموسيقى في أنحاء العالم، ودعمها معظم الموسيقيين الذين أصبحوا أعلاماً في تاريخها.
النساء والبلوز
عانت النساء السود من تفرقة عنصرية مزدوجة أثناء بحثهن عن عمل يكفيهن مذلة الفقر، فالوظائف العليا كان يحصل عليها البيض، بينما الأعمال الشاقة ذات الأجور الضئيلة كانت تمنح للرجال السود. ولهذا كان غناء موسيقى البلوز يعتبر مهنة للنساء السود ووسيلة لكسب الرزق، كما شكل هذا المجال بريقاً أخاذاً لما قد يجلبه الغناء من شهرة ومال، وهو ما كان حلماً قبل إلغاء قانون العبودية، كما دفع إلغاء قانون الرق في أمريكا الأصوات النسائية لاحتراف غناء موسيقى البلوز. ومع تطور موسيقى البلوز، أخذت النساء المقاعد الخلفية وراء الرجال في مجال غناء هذه النوعية من الموسيقى، ومع ذلك نجح بعضهن في كسر هذا الحاجز، وقفزن إلى الصفوف الأمامية. وكانت أول مغنية كبيرة في البلوز هي (ما ريني) Ma Rainey التي ولدت في كولمبس بولاية جورجيا. وفي سنواتها الأولى من اشتغالها بالغناء كانت تعمل مع زوجها وليام ريني الموسيقي المتجول في فرق السيرك الصغيرة. ولقيت تسجيلاتها نجاحاً كبيراً في جميع أماكن السود، حيث تمتعت بصوت قوي دافئ، وكلمات أغانٍ جذابة، وحضوراً جعلها موضع إعجاب كل من يتطلع ليكون من عازفي البلوز. وتركت (ما ريني) المسرح عام 1934 لتفسح المجال لمغنية جديدة هي بيسي سميث Bessie Smith (ولدت عام 1898)، وقد أحدثت تطوراً في موسيقى البلوز هدفت منه إلى ربط الجاز بتعقيداته، مع احتفاظ أدائها بحرارة موسيقى البلوز التقليدية وقوتها.
أنواع البلوز
في بدايات البلوز كانت الآلات الموسيقية الرئيسة قليلة نسبياً، وكان أهمها آلة البانجو (آلة وترية)، ولعلها في الأصل من صنع العبيد لأنهم حاكوا آلة أفريقية تشبهها تماماً واستخدمها البيض والسود في موسيقاهم، كما استخدموا معها البيانو والجيتار وآلة الـBass لتزيد من ثراء المحتوى الموسيقي. والآن تستخدم آلات موسيقية حديثة في أغاني البلوز كالطبول وآلات الإيقاع، ولذلك خرجت أنواع جديدة من البلوز. فهناك بلوز روك (له شعبية كبيرة بين عاشقي موسيقى الروك)، ونيو أورلينز بلوز، وريثيم آند بلوز، وجاز بلوز، وكنتري بلوز، والبلوز الكلاسيكية، والبلوز الأفريقية. وتقريباً معظم الألوان الموسيقية الموجودة حالياً متفرعة من البلوز، فموسيقى هيب هوب والبوب وروك آند رول جميعها وليدة هذا النوع الموسيقي. أما معظم عازفي موسيقى الجاز المعروفين فقد أظهروا مهارة فائقة في عزف موسيقى البلوز، ومن هؤلاء: ديوك إيلّينجتون، وشارلي باركر، وجاك تيجاردن. وكثيراً ما شملت موسيقاهم تعديلات وتغييرات على موسيقى البلوز القياسية المألوفة.
أيقونة موسيقى البلوز
من أوائل من غنى البلوز: بي. بي. كينج B.B king، وروبرت جانسون Robert Johnson، وبيسي سميث Bessie smith، وبوكا وايت Bukka WhiteK، وميدي ووترز Muddy waters، وجون لي هوكر John lee hooker، وألبرت كينج Albert king. ولا يمكن ذكر موسيقى البلوز دون أن تقترن باسم بي بي كينج (1925 - 2015)، ذلك المزارع القادم من الميسيسيبي ليغير من مفاهيم البلوز على مدى 65 عاماً قضاها في تأليفها وتوثيقها. ففي ربيعه العشرين قرر العزف بطريقة البلوز، ولتحقيق ذلك ارتحل إلى مدينة ممفيس عاصمة البلوز آنذاك، ليتلقى مبادئ الموسيقى الأولية على يد قريب له يدعى بوكر وايت. وخلال سنتين فقط نجح كينج في الاستقرار بممفيس وتقديم حفلات بها عجت بالموسيقيين الحالمين بالنجومية، لم يكن الأمر يسيراً لكنه حظي بمساعدة أحد ألمع موسيقيي البلوز سوني بوي ويليامسون.
وشهد عام 1952 انطلاقة قطار كينج الموسيقي بتسجيله أغنية Three O’Clock Blues التي تصدرت قائمة الأغاني الأكثر تداولاً على الإذاعات الأمريكية، وبدأت معها رحلة من النجاح استمرت أكثر من ستة عقود. ويحيل النقاد نجاح كينج الباهر إلى طريقته المتفردة في عزف الجيتار والتي اختلفت عن المدرسة التقليدية منذ نشأة هذا الفن. وبنهاية عقد الخمسينات استطاع ابن الميسيسيبي تنصيب نفسه نجماً للبلوز، وذاع صيته عالمياً في فترة كانت فيها موسيقى الروك هي الأكثر شعبية. ونقل كينغ خلال مراحل مهنته موسيقاه من مجرد مقطوعات ووصلات ريفية لتصبح فناً سائداً شكل إلهاماً لجيل من عازفي الجيتار مثل إريك كلابتون، وستيف راي فوجان.
وفاز كينج في حياته الفنية بجائزة جرامي 14 مرة. كما أدرج اسمه عام 1984 في قاعة مشاهير مؤسسة البلوز. في حين أدرج عام 1987 في قاعة مشاهير الروك آند رول. وفي عام 2003 صنفته مجلة رولينج ستونز في المركز السادس في قائمتها لأفضل 100 لاعب جيتار على مر العصور. وجرى التصديق رسمياً على شهرته؛ عندما احتفى الرئيسان الأمريكيان بيل كلنتون وجورج بوش بإنجازاته في حفل تكريم خاص في مركز كينيدي.
موسيقي البلوز البيضاء تتحرك
شهدت أواخر الستينات ظهور موسيقيين بيض تجاوزوا موسيقي الروك آند رول إلى التخصص في موسيقى البلوز. وأول هذه المجموعة، وربما أفضلهم، هو جون مايال، وفرقة بول باترفيلد. وفي إنجلترا انصرف عدد من الموسيقيين الشبان مثل إيريك كالبيتون Eric Clapton، إلى عزف موسيقى البلوز بطريقة استحوذت على إعجاب الموسيقيين السود في شيكاغو، وأدركوا إن موسيقاهم بأكملها قد تجاوزت حدود أمريكا وأصبحت جزءاً مهماً من التراث الموسيقي للإنسانية.