يأتي معنى الفن في القول إنه كما عرفه إبراهيم مصطفى وابن زيدون وآخرون (جملة الوسائل التي يستعملها الإنسان لإثارة المشاعر والعواطف وبخاصة عاطفة الجمال المرتبطة بالأرض) والحديث هنا عن أحد مسارات الفنون الأدائية التي تؤدى أمام الجمهور وترتبط بالجماهير وتعبر عنهم وتنقلهم إلى هوامش الدهشة والخلود الفني.
ولعظيم إيماننا بأن الفن حاجة ملحة للإنسان في حياته وخاصة الفنون الشعبية الطربية فإن هذا يرتهن إلى أهمية وجود المختبر الجمالي لهذه الفنون الأدائية والقولية والطربية كونه متكأً معرفياً والذي يعتبر فيه الإنسان أحد مكونات هذه المعادلة بوصفها معطى قيمياً واجتماعياً من جهة وكونها إرثاً توالد من خلال علاقة الإنسان بالمكان من جهة أخرى وهنا لا بد وأن نتحقق في ماهية هذه الفنون الطربية ومدى أهمية حضورها كمنتج إنساني في تكريس الروابط الحميمية والتعارفية والتعاونية بين المجتمعات في المحافظة على الهوية التي توالدت عبر تراكمات تاريخية سابقة كان الجانب الشفاهي فيها هو القناة الرئيسة الناقلة في ذلك باعتبارية أننا في لحظات كثيرة لم ندون ونحفظ ذلكم الموروث القولي إلا من المشافهة أو الشفاهية التي تبنى في حقيقتها على ما يتناقله الأبناء عن الأجداد، وهي تعمل كأحد المتاريس المواجهة للغة العنف والإرهاب والتطرف وهو ما يؤكده الكثير من الباحثين في علوم الأنثروبولوجيا والتربية والنفس والجمال في أن الفن مدرسة التهذيب الأخلاقي ومنجم للقيم الإنسانية والاتجاهات الإيجابية، ومعرفة ذلكم والتأكد منه يأتي من خلال هذا الرصيد ومدى تحقيقه للشروط والمعايير التي تحقق لنا أهمية تكوين وتشكيل المعادلة الجمالية وهو مظهر أتصوره واقعاً حقيقياً هنا في منطقة عسير بفعل الغناء الاحتفالي الآني وتداعياته في اقتناص اللحظة حيث تمتزج المتضادات الحياتية في نسيج مجتمعي واحد فالأفراح والأتراح والأفراد والجماعات والصوت والإيقاع والحب والكره والسلام تمتزج في بوتقة واحدة وتظاهرة إنسانية تعنى بتقديم الفن الاحتفالي التي قال عنها المسرحي المغربي الكبير صاحب الاحتفالية عبدالكريم برشيد (إنه لا يمكن أن نستعيرها من الآخرين ولا يمكن أن نبيعها أو أن نشتريها أو نؤجلها أو نستوردها وعظمتها تكمن أساساً في لحظيتها وفي آنيتها وارتباطها بزمكانها المختلف والمغاير) كصورة براقة وأخاذة تستند في كثير من الأحايين على موسيقى اللون في الزي المستخدم واعتماده على الألوان الزاهية والأساسية والتي تنتج ربما علاقة وجدانية وروحية صادقة تسمو بها الأنفس في التصاقها بألوان الحياة والطيف ولذلك تتجسد الأخلاقيات العالية وتتكرس مضامين عالية وأنماط ثقافية تتجاوز الكائن والممكن وربما يتخطى الزمن ويصل إلى لحظة المغايرة التي لن تتكرروتظهر الانفعالات المعبرة الصادقة وهو ما يعكس ثراء مبهراً على المجتمع من جهة وعلى قيمة ومضمون الجمال للفن من جهة أخرى، إضافة لموسيقى الجسد فالغناء هنا والرقص حالة تعبيرية جمالية تأخذ أشكالاً متعددة ورؤى فلسفية تتجاوز حدود الزمان والمكان معتمدة في ذلك على ميثاق وقانون أخلاقي وإنساني مصدره حب الحياة والأرض (الوطن) والبحث فيها عن مصادر الجمال والسعادة، والصورة هنا واضحة وجلية في معظم الألوان الشعبية (كالخطوة، واللعب أوالزحفة والدمة، والمسيّرة، والعرضة، والزامل) والتي تأتي في نهاية المطاف لتمثل نسقاً مجتمعياً متكاملاً ورمزاً تعبيرياً فنياً وجمالياً وكيوغرافيا بصرية راقصة ذات عنوان مستقل ومتعة متواصلة في الأداء والرقص وقدرتها على مواكبة التجديد والعصرنة مع المعطى الزمكاني المناسب للحالة وهذا هو أحد أسرار الفن وقدرته على التنامي في الفضاء الذي تحضر فيه، إضافة لكونها ترمز إلى كينونة ثقافية ذات ديمومة مستمرة والإشارة والبوصلة هنا تتجه إلى صيرورة تاريخية وجغرافية لم تتوقف لهذه الألوان المتناثرة في الساحل والتهائم وعلى رؤوس الجبال وبطون الأودية والصحراء، والاتصال والتواصل هنا يأتي كدليل واضح والعلاقة كذلك تتجسد من خلال الإنسان والمكان في خلق فضاء ممتد وطقس احتفالي يأخذ أحياناً الشكل والحكايات الأسطورية التي تنتقل بفعل المحاكاة والتقليد كما في بعض القصص والروايات والذي يتماهى مع الحدث الدرامي الذي تفرضه أسلوبية الحياة وما تقتضيه الحالة المحيطة به.
وتداعيات الحالة الدرامية الشعبية وإرهاصاتها وتصدير مناخها كما هو في (طقس الختان) قبل وأثناء وبعد الحدث وسيرورة هذه الأحداث وما يصاحبها من حوار داخلي (ديالوج) مع ذات الشخصية التي تظهر أمام الناس في موقف تتجسد فيه كل ممكنات الصراع ومنطلقاته الداخلية والخارجية.
(العجبة والعجّاب) مقاربة المفهوم والصيغة
تعد العجبة وهذا (رأي شخصي) من الظواهر المسرحية المندثرة في جنوب المملكة العربية السعودية، إذ كانت أحد النوافذ المسرحية التي تعتمد في صيغتها وتقديمها على ما يمكن تسميته منهجياً المونودراما (الشخصية الواحدة) والتي ما تزال في أذهان أهالي منطقة عسير، لأنها استطاعت عقد ميثاق إنساني بين صانع المشهد المسرحي المتمثل في شخصية العجبة وبين المتلقي (الجمهور) وهي تقترب من مسرح الحلقة في بلاد المغرب ومسرح السامر في مصر، والأهمية هنا تكمن كما أراها في ملامسة الجانب الوجداني العاطفي وحالة التمظهر الحميمي والشعبي وصولاً للرهان الكبير وتحديداً في اللقاء المباشر والتفاعلي مع الجمهور وإقحامه في العرض المسرحي الواقعي ذي النزعة الشعبية من خلال آليات التمسرح وارتجال الموقف وبحسب الشفاهيين الناقلين لهذا الفعل الدرامي فإن شخصية (العجبة أو المعجب) كانت تُمارس حالة مسرحية مكتملة العناصر بحضور الجمهور من أهل المكان في ذات القرية التي تنتمي لها شخصية العجبة حيث يروي ويرتجل ويقلد ويصف ببراعة متناهية ويحاكي ما رآه في قريته بداية بسرد الحكاية بشكل مبسط حتى يصل إلى مؤدٍ أو ممثل ومشخص للدور التمثيلي مضمناً ذلكم المشهد (الموقف والإيماءة والتقمص وصولاً للفرجة المسرحية الشعبية) وهنا لابد أن أشير إلى بعض مواصفات هذه الشخصية، إذ كانت راصدة لكثير من الأحداث اليومية التي يتماهى فيها الإنسان والمكان بما يتناسب ومعطى الدلالة والحدث ولذلك كان لزاماً على (المعجب) تقديم مشاهده الحوارية التمثيلية من خلال -كوميديا الموقف- والارتجال المرتهن في أحايين كثيرة إلى تلبس شخصيات يراها كراصد ومتابع بل يصل به الأمر الى ضرورة إدخال عنصر المفاجأة غير المتوقعة لصناعة التسلية والضحك إضافة إلى أنه صاحب قدرة عالية في فن تقديم الحكاية الساخرة حينما كان مثلاً يستحضر ويقلد شخصية الفلاح وهو يحرث أرضه وما يصاحبها من طقوس ترتبط بالحالة المسايرة والأفعال المصاحبة وراعي الأغنام يسرح بغنمه مردداً أرجوزته المبهجة، ويقلد من خلال السخرية والإضحاك والهزل حاملي المعدل (الشقاية) الذين كانوا يؤدون واجباً إنسانياً تعاونياً مع من طلبهم من الجيران.. يشار هنا إلى أن شخصية المعجب كانت تعتمد على (الرماد) المتبقي من عملية الاشتعال كأدوات بدائية يقوم هو ذاته في كثير من الأحيان بتصنيعها من الفحم وبعض جذوع الأشجار وأغصان الورق مضافاً إليها شيء من تراب المكان لغرض التنكر من خلال الضوء والظل وهو ما يمكن لنا تسميته عصرياً بالماكياج والتنكر المسرحي.
ويجب أن أشير أيضاً هنا إلى أن شخصية العجبة كانت تقوم بتغيير بعض الملابس التي يحتاجها الموقف التمثيلي وإضافة بعض ما يتطلبه العرض من الإكسسوارات المعززة والمؤكدة للحدث الدرامي وكل هذا يتم أمام المتلقي دون الحاجة إلى الكواليس المسرحية وفق تكنيك خاص للعجاب والغرض منه الاستعداد لتقديم هذا العرض المسرحي في مكان يقصده ويعرفه ويجتمع فيه أهل القرية مساءً بمسمى (امدفه) وهو المكان المرتفع، عن الأرض (سطح المنزل) الذي كانت تقام عليه هذه الفعالية المسرحية أوربما كانت تقام في الأفضية المفتوحة وفي أحايين أخرى كانت تقدم داخل المنازل والتي كانت في غالب الأمر لا تتجاوز الخمس عشرة دقيقة حيث تقف هذه الشخصية أمام الناس لسرد القصة المضحكة والمواقف المتتالية وسط هارموني متصاعد ومدهش يملأ الفراغ المسرحي الذي تقام عليه هذه الأحداث وفي هذا النطاق يقول عبدالقادر علولة المسرحي الجزائري المهتم بمسرحة التراث وموضحاً تصوره النظري والدعوة إلى المسرح الشعبي: (إن النقطة التي ننطلق منها لتحقيق المسرح المحكي ليست ماثلة في أن لنا تراثاً قصصياً يمكن إعادة تشكيله مسرحياً، وإنما القضية هي أن لدينا تراثاً قصصياً ذا طبيعة مسرحية، يصدر عن خيال مسرحي، وفهم متميز لمطالب المشهد، والموقف، والشخصية، وسائر عناصر البناء المسرحي، غير أنه كتب بأسلوب الحكاية (وليس الحوار)، لأن أسلوب الحكي كان الأسلوب المستقر والممكن، ولأن الأذن العربية هي الطريق المدرب لالتقاط الجمال وليس العين).
وفي نهاية العرض يتبادل الحاضرون أطراف الحديث بما رأوه مشهدياً وبصرياً في جلسات ونقدات انطباعية يسودها على الغالب روح المرح والتفاؤل والسعادة.
* مدير جمعية الثقافة والفنون بأبها