مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

رؤية جمالية لعسير

يسهم الفن في التواصل الدائم بين أفراد المجتمع عن طريق إثراء وتنشيط الحركة الفنية والارتقاء بالذوق العام، وتأصيل القيم التراثية والثقافية، كما أنه أصبح وسيلة لنقل ثقافة المجتمعات وما تحويه من عادات وتقاليد وأسلوب عيش، فهو يعرض الهوية الشخصية لشعب ما.
فحضارة الأمم والشعوب لا تقاس بما لديها من تطور علمي وتقني، بل تقاس بما يوجد فيها من إرث وتاريخ زاخر بالتراث، وقدرة أبنائها على المحافظة على هذا التراث وتحديثه بما يحفظ هويته.
كما يساعد الفن بشكل عام والفن التشكيلي خاصة على كشف المزيد من الرؤى الجمالية والفكرية الخاصة بمنطقة معينة، ونقلها للغير عن طريق عرضها في المعارض، سواءً كانت هذه المعارض فرديه أم جماعية، متنقلة أو ثابتة. أيضاً تتضح هذه الرؤى الجمالية عن طريق الجداريات والمجسمات المنتشرة في الميادين والشوارع وفي المنازل وفي الفنون الشعبية بشكل عام.
ونلاحظ أن جميع مقومات الجمال والتاريخ والفن موجودة في منطقة عسير، عسير الطبيعة.. عسير الجمال.. عسير الفن.. عسير الألوان.. فالزائر لمنطقة عسير يجد نفسه أمام لوحة فنية غاية في الجمال أبدعها الخالق سبحانه. فطبيعة عسير الجبلية وأجواؤها الممطرة رسمت لنا لوحة لجمال الأرض والجبال والغابات والسحب، وهذه اللوحة تُحيي لدى الزائر تواصلاً جمالياً يدعوه للاستمتاع بهذا الجمال والعودة مرة أخرى لزيارتها.
وقد زاد هذه اللوحة جمال بيئة عسير وفنونها الشعبية العريقة، من بناء وملبس ومأكل وفلكلور شعبي مميز، فعسير تعد من أهم مناطق المملكة العربية السعودية وأغناها تاريخياً، نظراً لموقعها الإستراتيجي قديماً، وقيام العديد من الحضارات على أرضها.
وبمجرد قيام الزائر بجولة في مدن وقرى عسير ومتاحفها وشوارعها وميادينها؛ يستطيع وبكل بساطة التعرف على تراث هذه المنطقة العريق، وقد تظهر في مخيلته على شكل لوحة فنية رائعة، وأول ما يلفت الانتباه في هذه اللوحة تلك المباني ذات الطراز المعماري المميز، فالمنزل بحد ذاته يعتبر لوحة، ويشعر الداخل إليه أنه يتداخل مع الألوان والخطوط التي تزينه من الداخل والخارج.
المنزل في عسير سواءً أكان مبنياً من الحجارة أم الطين (على حسب طبيعة المكان الذي يُبنى فيه) يتعاون في بنائه الرجل والمرأة، فالرجل العسيري يقوم بالبناء بمساعدة رجال القرية، ثم يأتي دور المرأة العسيرية في إضافة لمساتها الجمالية والفنية، فتدعو نساء القرية ليقمن بمساعدتها بالرسم والنقش على جدران المنزل الداخلية وعلى الأبواب والنوافذ بخطوط وأشكال متناسقة وألوان براقة جذابة، وهذا هو فن النقش العسيري أو (القط العسيري).
وضمن قائمة التراث العالمي غير المادي؛ أدرجت منظمة الأمم المتحدة للعلوم والتربية والثقافة (اليونسكو) عام 2017م (القط العسيري) فناً سعودياً تراثياً خاصاً بالزخرفة. وقد جاء قرار المنظمة في اجتماعها في جزيرة جيجو في كوريا الجنوبية، وتقول المنظمة الدولية: «إن هذا الفن يساهم في تعزيز الترابط الاجتماعي والتضامن بين النساء في المجتمع».
ويُعد هذا إنجازاً وفخراً لوطننا الحبيب عامة ولعسير وأبنائها بشكل خاص، فقد حاولوا جاهدين إبراز هذا الفن وهذا الجمال ونقله للعالم.
وبعد أن كان هذا الفن مقتصراً على النساء فقط أصبح اليوم يُمارس من قبل الفنانين والمهندسين من رجال ونساء، ومازال أهل عسير يمارسون هذا الفن في منازلهم، وقلما نجد منزلاً لا يحتوي على جزء ولو بسيط مزين بالقط العسيري، وهذا ما ضمن استمراريته والحفاظ عليه، كما أن هناك دورات تُقام من قبل نساء المنطقة المتمرسات مثل الفنانة فاطمة فايع التي تجاهد لتعليم الفنانات ونساء المنطقة القط العسيري ونشره في أعمالهن.
ومن هذا المنطلق أبدع فنانو وفنانات عسير في أعمالهم التي استلهموها من عسير وتراثها وفنونها الشعبية، ومن أوائل الذين أبدعوا صاحب السمو الملكي الأمير الشاعر الفنان خالد الفيصل أمير عسير سابقاً، وقد اهتم الأمير خالد الفيصل بالمنطقة وبتراثها، وحاول إبراز عسير وفنونها، سواء في شعره أم في لوحاته أو في مشاريعه البناءة.
فنجده يقول في عسير:
أنورت سودة عسير بطلعتك..
    وأزهرت من وطيتك خدانها..
اجتمع ورد الجنوب وبسمتك..
    والهوى هيمان في وديانها..
أما مشاريعه فهي كثيرة، ولكن ما يهمنا هنا هو تبني الأمير خالد الفيصل إنشاء قرية حديثه ذات طابع تقليدي يُحاكي تصميم القرية القديم، سميت مركز الملك فهد الثقافي (قرية المفتاحة التشكيلية)، وهي تُعد إحدى أجمل صور الدمج ما بين الأصالة والماضي العريق وبين المعاصرة والحداثة، وهي عبارة عن حي سكني قديم يتميز بالمباني القديمة الجميلة في مدينة أبها، حيث هجرها أهلها، فرأت إمارة عسير تحويلها إلى قرية حديثة ذات طابع يحاكي المباني والحياة القديمة، فرحب الأمير بالفكرة وشجع على إنشائها.
انتهى العمل من المشروع عام 1410هـ، ويضم المشروع صالة كبيرة للمعارض التي تقام في القرية كمعرض الكتاب أو المعارض الفنية، ثم أمر الأمير خالد الفيصل أن يُنقل سوق الثلاثاء (وهو سوق خاص بالحرف اليدوية والصناعات التقليدية) من موقعه القديم إلى جانب القرية حتى تكتمل معالم القرية لتحتضن الفنون التشكيلية والحرف والصناعات اليدوية، لتكون بذلك أبرز معالم أبها الثقافية والفنية.
كما تضم القرية 12 مرسماً و13 محلاً تجارياً لعرض المنتجات المحلية، بالإضافة إلى مكتبة تحوي جميع ما يحتاجه الفنانون من أدوات وخامات، ومطاعم وجلسات خارجية جميلة. وفي كل عام تستقطب المفتاحة الفنانين والفنانات التشكيليين لعرض أعمالهم ولإقامة دورات وورش وندوات فنية وثقافية.
وتُصبح بذلك قرية المفتاحة منارة الحركة التشكيلة بمنطقة عسير، فهي بيت الإبداع والفن والثقافة، وقد أخرجت مراسمها فنانين وفنانات غاية في الإبداع، كما زينت جدرانها لوحات جدارية تميزت بأسلوب متميز جمع ما بين عراقة منطقة عسير وتراثها والفن التشكيلي الحديث، حيث تمتد هذه الأعمال على عشرات الأمتار داخل القرية وتفترش أراضيها وتعانق جدرانها بألوان وزخارف تُمتع الناظر إليها وتجعلها تحفة فنية وسط قرية ثقافية فنية تشكيلية ذات مناخ جمالي أصيل.
وقد برز العديد من فناني عسير الذين استلهموا أعمالهم من تراث وثقافة منطقتهم، وأصبحت ميزة لأعمالهم، نذكر هنا فقط أربعة فنانين، هم: عبدالله الشلتي- عبدالله حماس- إبراهيم الألمعي- فايع الألمعي.
الفنان عبدالله الشلتي
الفنان الشلتي يتميز بأسلوبه التأثيري الذي يستمد مواضيعه من واقع بيئة عسير الزاخرة بالطبيعة الخلابة وأنماط البناء المتميزة.
الفنان عبدالله حماس
تميزت أعمال الفنان القدير عبدالله حماس بالتنوع والتجريد الهندسي، كما عرف عنه حماسه في استحضار تراث المملكة عامة، ومنطقة عسير خاصة، والمتمثل في الزخارف المرتبطة بالعمارة التقليدية، أو تلك المرتبطة ببعض المصنوعات التقليدية الأخرى، إضافة إلى استحضاره ملابس النساء المطرزة بالزخارف، والبيئة التي تميز منطقة عسير.
الفنان إبراهيم الألمعي
تميز الفنان إبراهيم الألمعي برسم المباني والبيوت القديمة بأسلوب تأثيري جميل، يظهر فيه ضربات السكين والفرشاة التي تجعل أعماله ذات طابع مميز.
 الفنان فايع الألمعي
الملاحظ في أعمال فايع الألمعي تطرقه للمواضيع الإنسانية وللمناظر الطبيعية، مع إظهار الحركة في الرقصات الشعبية وفي الأجواء المحيطة.
 وهناك الكثير من الفنانين والفنانات غير من تم ذكرهم، نقلوا لنا تراث وفنون المنطقة، وأثروا الساحة التشكيلية السعودية بأعمال غاية في الجمال، كما أن هناك فنانين ساهموا في جمال المنطقة، وذلك بتزيين الشوارع والميادين، وبخاصة مدينة أبها بأعمال فنية وجداريات تزيد من جمال أبها وعسير بشكل عام.
نماذج جداريات ومجسمات زادت من جمال أبها
ساهمت حكومتنا الرشيدة في إبراز عسير وتراثها في جميع المحافل الداخلية والخارجية، فنجد هناك معارض في الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك أخرى في المملكة المتحدة.. وغيرها، بالإضافة إلى استضافة واستقبال كبار الشخصيات العالمية في عسير وتعريفهم بفنها وجمالها.
ومن هذا الاهتمام مساهمة الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بتحويل وسط أبها إلى لوحة فنية ضخمة وحديثة من خلال واجهات ومظلات معلقة، خلال فعالية شارع الفن بممشى المدينة ضمن فعاليات مهرجان (أبها يجمعنا).

ذو صلة