ما من متابع يستطيع أن ينفي حضور أبها المدينة بكل أطيافها السكانية وأحيائها القديم منها والحديث أو المستحدث، وفضاءاتها الملهمة، فحضور هذه المدينة الباهية الزاهية في الكتابات والأعمال السردية لكتّاب عسير يتمثل بصورة أو بأخرى، كما يحدث دوماً مع الأمكنة الأخرى حين تتداخل مع نسيج النص وتسهم في ترسيخ معماره، ما يجعله يتكئ على بيئة قادرة على إمداد جذوره وصناعة توهّج أحداثه، ناهيك عن قدرة المكان/أبها أنموذجاً في تشكيل الشخصيات وفق أبعاد مختلفة ومتنامية في الوقت عينه.
الأمر الذي يدعو -على الأقل في هذه المقالة المقتضبة- إلى إلقاء الضوء على ذلكم الحضور الأبهي/الأبهوي في ثنايا الأعمال السردية التي نبتت من تربة المكان، وترعرعت على ما يغذيها به من عمق تاريخي وتقاليد وأعراف وعادات وطقوس ما يزال كثير منها باقياً إلى يومنا هذا.
والواقع أن تتبع هذه الأعمال بدءاً من تلكم الإصدارات الريادية التي استهلها الأستاذ محمد بن عبدالله الحميد بقصته الأولى (قد يكون الفقر سلّم المجد) المنشورة في جريدة البلاد السعودية 1372هـ بحسب (نشأة وتطور فنون الأدب في منطقة عسير2015م- أحمد التيهاني) مروراً بمحمد علي علوان، وتركي العسيري، وحسن النعمي، وإبراهيم شحبي، حيث كان علوان الأسبق إلى النشر عبر مجموعته (الخبز والصمت) 1397هـ، وليس انتهاء بكتاب القصة والرواية من الشباب مثل إبراهيم مضواح الألمعي، ومحمد مدخلي، وعبدالله السلمي، وعلي فايع ثم كاتب هذه المقالة فعبير العلي وعيسى مشعوف وأحمد الصغير، وغيرهم.
ذلك التتبع والتدقيق يعطي مؤشراً على أن جميع هؤلاء الكتاب قد نهلوا من وهج هذه المدينة واستمدوا دفق مدادهم السردي عبر الحضور المباشر لأبها/المدينة، أو غير المباشر بوصفها الحضن الوارف للفضاء السردي لكل منهم.
ففي (شهادة للبيع.. وقصص أخرى) التي أصدرها الحميّد يرحمه الله عام 1404هـ، تحضر أبها بصورتها القروية معلنة عن كونها حاضنة لأحداث القصص التي ضمتها المجموعة، فيما يتشكل الحضور القروي بقوة في مجموعة علوان (الخبز والصمت) ومجموعة (دامسة) 1419هـ، حيث كانت البيئة المحلية الجنوبية إطاراً عاماً للبناء السردي، وحالة من حالات التمظهر المكاني من خلال أبها والقرى المجاورة لها، وما يكتنف هذا البعد المهم من مؤثرات داخلية أو خارجية. ونشهد ذلك أيضاً عند حسن النعمي في أعماله المتوالية بدءاً من (زمن العشق الصاخب) 1404هـ التي يستلهم فيها البيئة العسيرية وما طرأ عليها من تحولات، وكذلك عند تركي العسيري في مجموعته المميزة (من أوراق جماح السريّة) 1410هـ.
أما في الرواية فلعل عبير العلي في الباب الطارف قد جعلت من أبها المدينة مركزاً للأحداث، على أن حضور القرية ومعطياتها ما يزال مهيمناً ومضفياً عبقهاً على تنامي الأحداث، إبراهيم شحبي كذلك في رواياته تناول أبها/المكان وجعلها بيئة حاضنة في بعض أعماله. ولإبراهيم مضواح أيضاً عبر عدد من رواياته تناول لأبها المكان إما على شكل مادي أو على المستوى اللفظي، وكذلك التخييلي.
وحتى نقف على واقع حضور مدينة أبها في حالتها التمدنية والسياحية على وجه الخصوص بما تحمله من ملامح تغيرت بفعل التطور الحادث اقتصادياً واجتماعياً، فإن الكتّاب ما يزالون لم يواكبوا ذلك التغيّر كما يراد، خاصة على المستوى الاجتماعي الذي انساق خلف وهج المدنية والتحضر البارزين على عادات الناس وأمزجتهم، بل حتى على بيوتهم ووسائل عيشهم.
أخيراً، لا أظن الحضور المكاني الحديث لأبها ومجتمعها بتركيبته الراهنة بكل ما تعرض له من تحولات في فترة زمنية قصيرة وقياسية، لن يكون جلياً إلا في كتابات الجيل الجديد من السرديين الذي هضموا السابق، وسيفتحون نافذة على التجديد في كتاباتهم المستقبلية.