مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

فن هش يميل للنكتة والتسلية

يعيش الكاريكاتير اليوم -بكل حسرة- أسوأ أوقاته، فبعد أن كان هذا الفن الساخر الناقد يصول ويجول في مختلف الصحف الورقية في عالمنا العربي ويعبر عن قطاعات عريضة للشارع، ويساهم في حركات التحرر ونصرة القضايا الإنسانية، وكانت رابطة رسامي الكاريكاتير العرب من أقوى الروابط لُحمة وتواصلاً، وكانت معارضهم الدورية تقام بمختلف الدور الفنية، انقلبت الحالة لعدة عوامل وأسباب يمكنني جملها في عدة نقاط أهمها في تقديري الشخصي تتمحور في تفهم رؤساء التحرير ومسؤولي النشر لماهية الكاريكاتير ودوره، فجزء منهم يعتبره فناً لا أهمية له، وبعضهم يعده بنداً من بنود التسلية والضحك والفكاهة، ويرون أن لا حاجة لدفع مرتب لرسام فقط لشغله مساحة لا تتجاوز 10X10سم. وإذا كان ثمة إعلان مدفوع القيمة في الصحيفة فإن أول ما يتم الاستغناء عنه من الصفحة هي مساحة الكاريكاتير عادة. كذلك سهولة القص واللصق من أية مواقع وصحف خارجية بدون حفظ للحقوق، وفي هذه النقطة نحتاج الكثير من القول حيث لا نعاني منها نحن فقط رسامو الكاريكاتير، بل الكثير من أصحاب الفن والفكر.
ثاني نقطة هي عدم وضوح تصنيف وتعريف أساسي لفن الكاريكاتير، وتحضرني هنا مقولة: (الكاريكاتير الابن غير الشرعي للصحافة)، ففن الكاريكاتير عبارة عن تكامل بين شقين: الشق الأول مكون من فكرة خبرية مضاف لها محسنات مجازية، بالإضافة للرسم المعبر عن الفكرة، وفي كلا الشقين لا يعتبره الفن ممثلاً له، ولا الصحافة، لذا كما أسلفت فإن عدم وضوح الانتماء والتعريف له دور أساسي فيما يحصل.
من هذا المنطلق أوجه اللوم لنفسي وللعاملين بمجال الكاريكاتير أيضاً نظراً لتقصيرنا في الاهتمام بالمساهمة في نتاج بحثي ودراسي ومحاولة لتأصيل ووضع أسس وقواعد لهذا الفن المهم كفن مستقل وقائم بذاته.
أيضاً فإن التطور التكنولوجي بصورة عامة أثر على الصحافة الورقية بصورة كبيرة فقلّ عدد الصحف وتوقف الكثير منها، وتم التوجه للصحافة الإلكترونية، وتوقف العديد من الإصدارات الورقية وتقلص حجم المنشور الورقي عموماً. فالرسم الحالي أصبح رسم ديجتال إلكتروني، وقلّ استخدام الأدوات التقليدية في الرسم بصورة كبيرة. أيضاً نجد أن التحول الحالي للصورة التفاعلية المرتبطة بالصوت في شكل فيديوهات ومقاطع توصل المعلومة بطريقة سهلة ومبسطة هو سبب رئيسي من أسباب تراجع فن الكاريكاتير. كذلك عدم وجود مدارس وكليات للتدريس متخصصة في المجال، بحيث لا يوجد تخصص بفن الكاريكاتير مما أدى لعدم وجود فنانين متخصصين بعدد كبير بالمجال.
ولا يفوت مطلع أن الدخل المادي العائد من عمل الكاريكاتير لا يشجع الكثيرين بالانخراط في هذا المجال وغالباً ما يكون الكاريكاتير عتبة أولى ينتقلون منها لمجالات أخرى في الدعاية والإعلان أو خلافه. فالأعمال الكاريكاتيرية ليس لها مردود مادي كالفن التشكيلي، حيث لا تُباع الأعمال مثل اللوحات التشكيلية، فالتجاوب معها محصور في مجال حضور المعارض وخلافه. مما حدا بالعديد من رسامي الكاريكاتير للاتجاه لرسوم الأنيميشن لسعرها العالي ومردودها المادي المجزي، لذا اتجه العديد منهم ناحيتها وأغفلوا جانب الكاريكاتير لقلة مردوده كما ذكرت سابقاً.
ومن الجدير بالذكر فإن المدرسة العربية للكاريكاتير بصورة عامة اتجهت لكاريكاتير النكتة وجردت الكاريكاتير من تأثيره الذي تميز به الرعيل الأول، والذي كان نصيراً لقضايا الأمة الوجودية، فأدى لاستشهاد الفنان ناجي العلي لما أحدثه من تفاعل وصدى على الاحتلال الصهيوني. فكثيراً مايتعرض رسامو الكاريكاتير للإقصاء والنفي والسجن والمقاطعة من العمل بالصحف عندما يكون دورهم مؤثراً وأصحاب جماهيرية عالية.
وفن الكاريكاتير الآن تم تدجينه بواسطة السياسات الحكومية ومقص الرقيب والخطوط الحمراء ورؤوس الأموال متمثلة في ملاك الصحف الذين تهمهم صفحات الإعلان والمردود المادي أكثر من سواها. كذلك فإن الحالة الاقتصادية الراهنة التي نعيشها في عالمنا العربي بصورة عامة قللت من دعم قطاع الثقافة والفنون فأثرت بطريقة مباشرة وغير مباشرة على العاملين في مجال الرسوم الكاريكاتيرية.
هذه النقاط في تقديري الشخصي أثرت بصورة كبيرة جداً في مجال الرسم الكاريكاتيري، وفي عدد العاملين بالقطاع، فنشاهد هجرات وعزوف العديد من الرسامين لمجالات أخرى كما أن مقص الرقيب والخطوط الحمراء والتضييق على الحريات كما أسلفنا ساهم بدور أكبر في تجريد هذا الفن المؤثر من أهم مميزاته وهي النقد ودجنه ليكون فناً هشاً ميالاً للنكتة والتسلية، وكل ذلك أدى بصورة مباشرة وغير مباشرة لتراجع فن الكاريكتير في واقعنا اليوم.

ذو صلة