مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

تطرف الواقع ومبالغة الفن

يقول الفنان الراحل حسن حاكم: (حين يمشي الإنسان على الأرض، هذا أمر عادي، ولكن الدهشة حينما يمشي على الجدار)، والكاريكاتير هو مشي على الجدار.
والكاريكاتير هو فن بصري، تشكيلي يقوم على الخط واللون، لكنه يذهب إلى المبالغة في بعض الأجزاء لإحداث المفارقة والسخرية، ويتناول موضوعات الحياة اليومية بالنقد والمناكفة والمشاكسة، ولذلك فهو (فن متوحش حاد الأسنان).
يعود مصطلح (كاريكاتير) في الأصل إلى اللغة الإيطالية التي تعني «المبالغة» وتحريف الملامح، ويشبّه هذا الفن بالمرآة المحدبة التي تشوه الصورة الواقعية أو تعيد إنتاج التشوهات في الواقع لتجعل من المعاناة مشهداً كوميدياً (مضحك مبك).
وفن الكاريكاتير هو (احتيال) بالرسم الرمزي الذي يقول ما تعجز عنه الكلمة والكتابة، ولهذا فقد حظي على القبول الشعبي بالنظر لبساطته وسهولة تلقيه من قبل مختلف الفئات ومستوياتها المعرفية. ومما وسع انتشاره أنه يحمل: (ما قل ودل) ولا يحتاج متلقيه لمعرفة القراءة والأبجدية لفهمه، فهو قابل للتأويل بحسب مرجعياته، ويتوقف نجاح الفنان في الكاريكاتير على مقدرته في إثراء العمل الفني بعدد من الرمزيات والإشارات التي تتصل بلغة المتلقي وبمعاش الناس ومخاطبة القطاعات الأكبر من الجمهور.
الرمزية وفخ الرقابة
عرف الكاريكاتير أول مرة في الصحف البريطانية مطلع القرن التاسع عشر، وارتبط بالصحافة المكتوبة للتعبير عن مشاهدات الفنان ورؤاه تجاه القضايا الاجتماعية والمعيشية والسياسية. بينما عرف في مصر بعيد حملة نابليون بونابرت عام 1878 على يد يعقوب صنوع في المجلة الفكاهية (أبو نظارة).
جاء هذا الفن في ظل انتشار الطباعة، وانتشار الصحف، ولعبت بساطته وعمقه واختزاله لكثير من المقالات في نجاحه، كما أن خصائصه الرمزية لعبت دوراً في الهروب من فخ الرقابة.
وكان الكاريكاتير يمثل ملح الطعام بالنسبة للصحافة اليومية والدوريات السياسية والثقافية التي تختار لها أعلى الصفحة الأخيرة، وخصوصاً أن الصورة (تعادل ألف كلمة)، بحسب المثل الصيني.
وقد سبق فن الكاريكاتير التقنيات الحديثة التي اعتمدت على الصورة كوسيلة للخبر، وكان غالبية الرسامين أجانب قبل أن يبرع عدد من الفنانين في مثل هذه الوسيلة التعبيرية الفنية والجمالية والإعلامية. ونجح عدد من فناني الكاريكاتير العرب في أزمان مختلفة بخلق شخصيات حازت على محبة الناس، ومنها: الأفندي لصاروخان رائد الكاريكاتير في مصر، وحنظلة ناجي العلي، وابن البلد لعبدالمنعم رخا، وأبو محجوب عند عماد حجاج.
كما برز عدد من رسامي الكاريكاتير في الوطن العربي، منهم: صلاح جاهين، مصر، ومحمود كحيل، لبنان، علي فرزات، سوريا، وجورج بهجوري، مصر، ورسامة الكاريكاتير أمية جحا، فلسطين.
وما يميز فن الكاريكاتير ميله للحكاية الدرامية التي تصور مشهداً متكاملاً لقضية ما يجتمع فيها كل أطراف القصة، ويتم رسمها بخطوط فكاهية لا تخلو من التناقض والسخرية، وتمتاز الصورة بالحركية والدينامية التي تشبه معها المشهد المسرحي أو اللقطة السينمائية. ويقول الفنان المصري صلاح بيصار: (إن فن الكاريكاتير يعد أقسى سلاح للتغيير، يقتحم الحياة بلغته النافذة الخاطفة كالبرق).
التعبير بلغة الناس
يلعب رسام الكاريكاتير الاجتماعي أو السياسي دور المخرج والمصور والناقد، فهو
يقظ، لماح يختار اللحظة المفارقة ويختزلها في الموقف ببراعة وخفة ظل، وعدا عن ذلك فهو يعايش كل فئات الشعب، ويعرف وجعهم، يتابع لما يجري في العالم، وقبل ذلك فهو يحمل رسالة تنحاز للبسطاء وتدافع عنهم، ويقف مع الحق ضد الظلم، ولذلك فقد تعرض الكثير من رسامي الكاريكاتير للسجن والقمع والموت، ومنهم: ناجي العلي، اغتيل عام 1987 في العاصمة البريطانية لندن، علي فزرات، تعرض للخطف والتعذيب، رخا الذي تعرض للسجن.
يقول الكاتب محمد الحمامصي: إن صور ورسوم عبد المنعم رخا إبان ثورة الجلاء المصرية (قامت هي الأخرى بمظاهرات سالت فيها الدماء)، ووصف الباحث خالد الفقيه أعمال ناجي العلي بأنها (قنابل موقوتة)، وأن الفنان لم يكن يرسم حدثاً، بل يقرأ ما وراء السطور الخبر، ولهذا بقيت رسوماته حية لأنها غدت معبرة عن قضية الإنسان والإنسانية.
لقد بقي فن الكاريكاتير تاريخياً مرتبطاً بمساحات الصحف الورقية والدوريات السياسية والثقافية، وكان يمثل النافذة البصرية لها عبر الصورة والمشهد الدرامي واللقطة المتحركة، وشهدت مرحلة الستينات حتى تسعينات القرن الماضي نشاطاً كبيراً لفن الكاريكاتير الذي ارتبط بالأحداث السياسية والتحولات الاجتماعية التي ارتبط بالمرحلة.
ومع الأزمة التي تعرضت لها الصحف الورقية بعد ظهور شبكات التواصل الاجتماعي و(الملتي ميديا) التي تزامنت مع الأزمة المالية العالمية فقد خفت الاهتمام بهذا النوع من الفن في الصحافة العربية، وقد نبه له الفنان بهجوري مطلع الألفية الثالثة في واحدة من الندوات بقوله: (فن الكاريكاتير تراجع).
غير أن تلك الأسباب على وجاهتها، إلا أن هناك الكثير من الأسباب التي تتصل بطبيعة فن الكاريكاتير وفنانيه.
عين تلاطم المخرز
إن فن الكاريكاتير وإن كان ينتمي للفن التشكيلي، ومهارات الرسام إلا أن قلة من الفنانين التشكيليين الذين دخلوا مجال الكاريكاتير استطاعوا تحقيق النجاح الذي يتطلبه مثل هذا الفن، فالمهارة والتقنية والجمال ليست هي الوسيلة الأساسية للنجاح، بل هناك (خلطة) يتطلبها هذا الفن للوصول إلى الجمهور، ومنها (خلق الدهشة) و(خفة الظل)، وإحساس المتلقي أن الفنان يرسم له همومه وأنه يتكلم بلغته ويهمس له كصديق، بينما غالبية رسامي الكاريكاتير يرسمون أعمالهم في غرفة مغلقة عبر تخيلات لا تتصل بهموم الناس. ورسام الكاريكاتير وإن كان ينتمي لحقل الفن، إلا أنه يعمل في إطار مهنة الصحافة التي تتطلب مهارات الصحفي وتطوير خطابه وفق تحولات فنون الصحافة ووسائل الاتصال وتقنياتها.
ويبدو أن كثيراً من فناني الكاريكاتير الذين تركوا بصمة في المجال قد غيبهم الموت ولم يتسن لجيل جديد أن يحمل رسالتهم التي كان مضمونها أن (العين تلاطم المخرز) العين الشاهدة التي ترى تناقضات المجتمع وتصورها بيد لا ترتجف.
ومع مناخات الانفتاح والتحولات الديمقراطية في غالبية الدول العربية، إلا أن رسامي الكاريكاتير مازالوا يشعرون أن أصحاب القرار في الصحف تغيب لديهم الذائقة لتقدير أهمية الكاريكاتير، وأنه (لا يقدم ولا يؤخر)، كما أن الفنانين يشعرون أن رؤساء التحرير ينظرون لأعمالهم بحذر، ويتعاملون معها بحس الرقيب. وأن هناك (تابوهات) محرمات لا ينبغي على الفنان الاقتراب منها، وهي ما تقلل بحسب فنانين مساحة الحرية لديهم، وهي كما يقال (رأسمال فن الكاريكاتير وموضوعه).
وفي ظل أزمة الصحف فقد طاولت إجراءات التقنين على رسامي الكاريكاتير، ففي الوقت الذي تحرص فيه الصحف على وجود عدد من الرسامين كما الكتاب، فإن بعض الصحف العربية قلصت عدد الرسامين إلى واحد، وبعضم يلجأ لأخذ كاريكاتيرات من صحف عربية أو عالمية ويعيد نشرها.
ومما أثر على فن الكاريكاتير ذهاب بعض الرسامين إلى حقل الرسوم المتحركة بترحيل شخصياتهم الكاريكاتيرية ضمن فيلم قصير جداً يبث عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
غياب النقد
إن فن رسم الجدران الذي اتسم بعفويته والتصاقه بالحدث ونشط خلال (ثورات الربيع العربي) كان قد تجاوز فن الكاريكاتير وما ينشر في الصحف اليومية (الرسمية).
ومن المشكلات أن فن الكاريكاتير وفنانيه اقتصر نشاطهم على المساحات التي توفرها الصحف الورقية، ولم يبحثوا على منصات أخرى، وحتى المساحات التي يعرضها التلفزيون والفضائيات بقيت مستعارة من الصحف اليومية، ولم تلجأ الفضائيات لاقتراحات جديدة لعرض الكاريكاتير.
ومما أضعفت الاهتمام بالكاريكاتير بشكل عام، أن كثيراً من فناني الجيل الجديد الذين يعتمدون على (الديجتال) يعتقدون أن هذا الفن يقوم على فكرة (التشويه) فحسب، دون أن عمق الفكرة والمعالجة.
وربما يكون من المهم الالتفات إلى أن الكاريكاتير هو فن بصري يحتاج إلى وعي المتلقي بأبجديات هذا الفن ودلالاته الرمزية ومفرداته، ومرجعياتها التي تحقق فهم المادة البصرية.
وفي إطار تلك التحولات في وسائل الإعلام واختلاف طرق التلقي وتنوعها بقي فن الكاريكاتير دون روافع معرفية من النقاد الذين يسوقون فكرته الجمالية والتنويرية من خلال القراءة النقدية والدراسات العلمية التي ترصد تحولات هذا الفن وتأثيره الاجتماعي والسياسي، وتقدم للمتلقي والفنان والصحف ووسائل الإعلام أفكاراً للخروج من الأزمة.
كما أن الصورة التي تعرضها الفضائيات تجاوزت الواقع، وجعلت من المتخيل اعتيادياً الذي عطل فكرة (الدهشة) التي ينتظرها التلقي في الكاريكاتير.
ربما تكون الأزمة مشتركة بين الصحافة التي تعاني من المنافسة مع وسائل الاتصال الجديدة، وفنان الكاريكاتير الذي أفقده تطرف الواقع وحدته دهشة المتخيل.

ذو صلة