مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

بلاغة التصويب في ممكنات الخيال.. حسان بن حامد.. تجربة تونسية معاصرة

إن التحولات التي عرفتها الصورة المعاصرة على مستوى مضامينها ورهاناتها التقنية والدلالية؛ قد شكلت منعطفاً حاسماً، ساهم وبوضوح في بناء نمط مستحدث من التمثيل التصويري في فنون الكاريكاتير المحلية والعالمية. إننا نعيش اليوم عصر تدفق الصورة وإملاءاتها الرقمية والافتراضية وغيرها من الممكنات التحديثية في عالم الصورة المتحولة. وتزدهر ثقافة الصورة الكاريكاتيرية الراهنة لتحتل نصيباً وافراً من التفاعلات والمزاوجات الرمزية بين النص المقروء والمبصر. فما هي آليات الصورة الكاريكاتيرية؟ وكيف ينخرط المشهد الاجتماعي العربي عامة والتونسي خاصة ضمن لعبة الإفصاح والكمون في رحاب التعبير وبلاغة التصويب؟
لقد عرف فن الكاريكاتير في الحيز التاريخي المعاصر تنوعات متفاقمة تشهد على قوة هذا الأسلوب التعبيري. ورصداً لهذا التطور الواضح في المشهد الثقافي التونسي، بالتحديد فيما بعد الثورة، فإننا نقف عند إثراءات المشهد الاجتماعي ودوره الفاعل لشحن المخزون البصري للفنان الكاريكاتيري وإتقانه لفن السخرية والنقد البناء. فماذا يرسم المبدع في تونس ما بعد الثورة؟ كيف يطرح خطاباته الرمزية ضمن أسلوب البناء الكاريكاتيري المشبع بالحرية؟
فن الكاريكاتير وممكناته التصويرية في تونس اليوم، وارتحاله بين الملزمة والتحرر، يدفعنا للسؤال عن أخلاقيات فن الكاريكاتير وأين تعلن حدوده؟ وهل هو تحول فكري لثقافة التقبّل في ذائقة المجتمع التونسي؟
يأخذ المجتمع التونسي في المشهد التشكيلي المعاصر بعد الثورة، مكانة مهمة، نظراً للتحولات السياسية والاجتماعية المتصاعدة. وانخرط الفنان في رحلة التبني الصارخ لكل الهموم الشعبية في الثقافة المحلية، ليخضب صوره برسومات مبسطة شكلاً وتقنية، عميقة في دلالاتها الرمزية والتعبيرية، وهو ما ساهم في تكاثر وتعدد التجارب الفنية لهذا الأسلوب التصويري. فهل يرسم الفنان هموم الشارع التونسي ضمن تصوير نخبوي، أم أن فن الكاريكاتير مكاشفة معلنة للمقاومة ضد التجاوزات الاجتماعية والفكرية الشعبية؟
مكاشفات الصورة الكاريكاتيرية في تجربة حسان بن حامد
يتمرس حسان بن حامد لغة الصور الناطقة، هذا الشاب التونسي المسكون بلغة الفن التعبيري الكاريكاتيري، والمنخرط ضمن قائمة الباحثين عن تركيز أسس لهذا الفن وإثراءاته المتطورة بعد الثورة؛ حسان بن حامد، أكاديمي متحصل على شهادة الأستاذية للفنون التشكيلية، ويزاول تجديد طاقاته التصويرية ومكاشفة القيمة الدلالية في الصورة المختزلة والمبسطة والعميقة جداً في مستوى العلامات المختزنة بها. وعندما يتساءل عبدالكبير الخطيبي: (كيف للإنسان أن يمارس التشكيل بالرغم من وجود الحياة، هل يتعلق الأمر بواجب أم برغبة مجروحة، كيف السبيل إلى ممارسة التشكيل من غير أن يتحول المرء إلى قربان؟) تتأسس المقاربات التي يشتغل عليها فنان الكاريكاتير اليوم، وهو ما يدفع تجربة حسان بن حامد بأن تتشبع بطاقة جمالية محفوفة بالبساطة التقنية والتشكيلية، وعميقة في رسائلها المصرّح عنها والمضمّنة. استطاعت رسوم الفنان ابن حامد في المشهد التشكيلي التونسي ما بعد الثورة أن تكون منارة تقع مكاشفتها عبر رحاب الخيال التصويري وبلاغة التصويب، لتشهد رسوم الكاريكاتير على أحداث ومواقف اجتماعية بلسان صارخ وموقف نقدي بأسلوب السخرية المعمقة، فتناول ابن حامد أحداثاً عاشها المجتمع التونسي وحركت غضبه وفطرت تعلقه بأمل الحياة، وتحدث عن الانتخابات والفيضانات وغلاء المعيشة ومصاعب التدريس وغيرها من الحالات التي ينطقها الفنان برسائل مكتوبة ومصورة من شأنها أن تحدث ثورة فكرية وتشحن وعياً بالرغبة في التغيير.
إن مكاشفة الصورة في فن الكاريكاتير باعتباره فن المبالغة وفن ما لا يطاق السكوت عنه والإفصاح به؛ هي رهانات التعبير في تجربة ابن حامد التي لم تكن خالية من ميكانيزمات المبالغة والجذب. يحرف الفنان شخوصه بطرق فيها من الذكاء البصري الكمية الكافية للتبليغ، والتصويب السليم. وانطلاقاً من عملية رصد الحدث واستتباع أمر السياسيين والمشهورين والوقوف عند الحالات الاجتماعية والسياسية المعاشة في إطار المجتمع التونسي؛ فإن حسان بن حامد لم يدخر فرصة للتصوير بشكل لاذع وساخر بصفة رائقة ومنمقة، تخرج عن السخرية اللاأخلاقية. يرسم الفنان، ويتفاعل مع المتحولات الاجتماعية، ويقف عند تطويع الحدث في رسالة مصورة ناطقة بسيطة الطرح وعميقة التأثير الاجتماعي. ومن خلال أعماله فإننا نكاشف الرهان الرمزي الذي تحلى به الفنان، ليخاطب كل شرائح المجتمع ولينسج خرائط الصور والنص المكتوب والمرفق معها.
حرية فن الكاريكاتير
إذا ما ارتبطت همّة الفنان التونسي بعد الثورة بقيمة الحرية فإن الممكنات التعبيرية في كنفها قد مكّنت أصحاب القلم الناقد والرسوم الكاريكاتيرية من أن ينخرطوا ضمن مكاشفات الصور وتبعاتها التاريخية. ولم يكن حسان بن حامد بمنأى عن ذلك الهوس وطفرة التعبير المتحرر أثناء وبعد الثورة. فأن يكون المرء حراً هو أن يكون قادراً على استيعاب الأحداث والإشكاليات التي يعيشها المجتمع، والتجاوزات التي يقف عندها الفنان ليطرحها بأسلوب فيه الكثير من الذاتية الفنية. وإذا ما يميل الفرد إلى ربط الحرية بطرافة الإرادة، إذ ما دامت الحرية هي الفعل الذي به تتعين الذات، فلا بد بالضرورة أن يكون ثمة فرادة، غير أن هذا يفارض الخلط بين الذاتية الفردية والذاتية الكلية، فليس مقياس الحرية هو الفارق وليس من الضروري لأكون حراً أن أريد غير ما يمكن أن يريده الآخرون،وإنما يكفي أن تكون إرادتي ملكاً لي، وأن تكون مؤسسة عقلياً. تكمن الحرية في مجابهة الذاتية ومكافحتها بالغيرية المطوّعة للعيش معها، ولم يستطع الفنان بتونس أن يكون حراً إلا بعدما توارت الالتزامات والمعوقات الناجمة من السلطة والخوف منها وتجريم حق التعبير الكاريكاتيري. وما بين الرسوم والألوان وطاقاتها التعبيرية وإرادة الفنان في اكتسابها كلحن للمقاومة ضد الظلم والقهر وتبني صوت الجميع، فإن تمرد حسان بن حامد يشارف على حالات التعبير الخافق برغبة في التصويب وإبحار في مخيال الصورة ورهاناتها الرمزية المعلنة والمضمنة. لقد اتسمت تجربة حسان بن حامد في فن الكاريكاتير بمحاولاته المتجددة لنقد الواقع والتمكن منه بإرساء صور ناطقة بصيغ مبسطة وبشعارات مضمنة للبوح بما يمليه الخيال لالتزامات التصويب المطلق لهدف اللوحة الكاريكاتيرية.
وبين حالات العرض المختلفة لهذا الفن الثوري الفتي في البلاد العربية وبتونس خاصة؛ فإن صفحات التواصل الاجتماعي والصفحات الورقية للمجلات والجرائد أو أعمدة جدران الأحياء الشعبية؛ تحمل تباعاً بصور كاريكاتيرية، بأنماط مختلفة ومتأججة لردّة فعل الطبقة الشعبية والنخبوية على حد السواء.
ومن خلال تأسيس خرائط العرض والإشباع المشهدي تمكن الفنان حسان بن حامد من خوض غمار العرض بالمعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس ليكون عنوان بحثه كاري كرتوش، ويرفقه بالنص التالي: (هو عنوان لصور متحولة بذخيرة المعنى، صور ساخرة ومتمردة تحفز بحثنا عن الصواب... تصوب فتصيب أو تخيب. خصمها الظلم وعدوها القهر. أن تكون رسام كاريكاتير يعني أن تعيش دائماً على أهبة حرب عُدّتك فيها (موقف) وعتادك قلم، وأن تَخُطّ خطوطك بخيوط من الرّوح تتناسل من بينها كائنات حِبريّة تتأرجح بين العقل والجنون وبين الممكن والمستحيل. هنا يجهش الرسم ضحكاً ويتقمص لعباً ويصرخ الألم أملاً، هذا القلم ليس بقلم، هو يد وقلم... رصاصة وتهمة سافرة تمشي بلا قلم...).
تستمر رحلة الصورة الكاريكاتيرية كفتنة لأصحاب الموقف والقلم، لتنبت حالات مشهدية نابضة بالحياة ومعلنة عن آليات الرفض ومعالجة موقف (لا) بطرق إبداعية متحولة مدجّجة بالفكر المنير. ومن خلال دعم هذا الفن لما يثري به ساحات التحوّل الثوري فيما بعد الربيع العربي؛ فإن إرساء لغة نقدية لهذه المقاربات يبقى سلاحاً نظرياً وجمالياً لرسم الهوية الفنية العربية بتونس المعاصرة والمنفتحة على المدّ العالمي ورهاناته.

ذو صلة