مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

خطاب رمزي فعال

من المعلوم أن مصطلح (الكاريكاتير)، الذي يعود من الناحية المعجمية إلى اللفظ الإيطالي (caricatura)، المنحدر بدوره من الفعل (caricare)، الذي يعني: حمل وشحن، يستعمل منذ القرن الثامن عشر، بدلالاته الانتقادية ووظائفه السياسية والاجتماعية والثقافية. من هنا دلالات الشحن والملء والتكثيف. غير أنه، في جميع الأحوال، خطاب نقدي ساخر أكثر فعالية في الكثير من الأحيان من الكلمات والألفاظ. لذلك نجد أن العديد من الرسامين والفنانين التشكيليين يتوسلون بفن الكاريكاتير للتعبير عن وضعية معينة يعرفها المجتمع، وضعية تصل إلى درجة المفارقة le paradoxe، وبالتالي لا يعود بالإمكان التعبير عنها إلا بواسطة الكاريكاتير.
الكاريكاتير، إذن، هو وسيلة تعبيرية تقوم على الرسم من أجل نقل فكرة ما أو موقف، أو التعبير عن إحساس كالخوف أو الغضب أو الاحتجاج. وبهذا المعنى، فإن الكاريكاتير هو لغة كونية تتجاوز الكلمات والجمل. ومن ثم، فإنه حين يمارس وظيفة نقدية أو أخلاقية وسياسية، فهو لا يقوم بذلك إلا باعتباره فناً وليس خطاباً مباشراً. هو فن لأنه يعتمد أساساً على الخطوط والألوان والظلال والحروفيات لممارسة هذه الوظيفة الساخرة بامتياز. إنها وظيفة المحاكاة الساخرة la parodie بما هي انتقال من التعبير المباشر إلى التعبير غير المباشر، وانتقال من التعبير الجدي إلى التعبير الهزلي للتأثير في المتلقي بكيفية أكثر وأنجع، وتوعيته وتقريبه أكثر من طبيعة الموضوع.
وفي زمن الشبكة العنكبوتية، لم يعد فن الكاريكاتير مجرد رسم محايد يصدر على صفحات الصحف والمجلات بهدف مواكبة ومرافقة المقالات والتحليلات والتعليقات. كما أنه لم يعد مجرد نكتة للتفكه والضحك ممن يقعون تحت ريشة الفنان الكاريكاتيري. إنه، كما يقول الباحث إبراهيم الحيسن في كتابه (الكاريكاتير في المغرب: السخرية على محك الممنوع)، (ص. 42)، أخطر من ذلك بكثير، بل أكثر خطورة مما نتصور عادة، تلك الخطورة التي يعيها جيداً رجال السياسة في غالب الأحيان.
بهذا المعنى، فإن فن الكاريكاتير، على الأقل كما نجده في البلدان المتقدمة التي تتبوأ فيها الديمقراطية مكانة مرموقة، يعتبر بمثابة مقياس فعال لقياس درجة حرارة هذه الديمقراطية والحرية المرتبطة بها. وإذا كان الكاريكاتير هو (فن الإضحاك بالتضخيم، أو المسخ لصورة شخص ما أو قضية ما، بهدف الانتقاد والسخرية)، كما نقرأ في (معجم المصطلحات الفنية والأدبية) للدكتور فؤاد شعبان، فقد أضحى في السنوات الأخيرة يتعدى فضاءاته التقليدية المعتادة في التعبير، كما أسلفت، ليخترق الوسائط التعبيرية الأكثر انتشاراً، كالإذاعة والتلفزيون والإنترنت. وبالتالي أصبح حاضراً بقوة كل يوم في هذه الوسائط، باحثاً في الآن ذاته عن آليات وتقنيات تعبيرية تتماشى مع إمكانيات البث المرئي والمسموع لتعميق بعد السخرية ذات المقاصد النبيلة، التي هدفها بالأساس هو تعرية الواقع وإزالة الأقنعة واستجلاء الحقائق والكشف عن مكامن الداء. إنه مرآة تعكس هموم المواطن العربي ووضعيته الاجتماعية.
لذلك نجد أن فن الكاريكاتير يشتغل على الرمز بكيفية كبيرة، لأن الرمز متعدد الدلالة ويقرب الرسالة إلى الجمهور الواسع. ومن المعلوم أن الرمز في اللغة يعني الإيحاء والإشارة التي تترك للمتلقي فرصة استكمال الصورة أو الموقف. ومن بين الأمثلة المشهورة في الكاريكاتير العربي، نذكر الصبي حنظلة، الوجه الآخر لناجي العلي. حنظلة الصبي الفلسطيني الذي عبر دائماً بلغة الصمت عن مأساوية الواقع الفلسطيني الذي عانى ولا يزال من الاستيطان الإسرائيلي. وإذا كانت حياة الكاريكاتيريست ناجي العلي قد ظلت معرضة باستمرار وكل يوم للتهديد والاعتقال والطرد، فقد بقي، عن طريق أيقونته الكاريكاتيرية (حنظلة)، صامداً أمام كل أنواع التنكيل والبطش. حنظلة الواقف في الرسم الكاريكاتيري، يوحي أحياناً بالجمود والتفرج على الدراما الفلسطينية، غير أن تجاوز هذه النظرة التبسيطية يكشف عن مستوى أعمق يقول عنه الراحل ناجي العلي: (هذا الصبي رمز ذاتي، وعندما رسمته كنت أحاول أن أعكس ذاتي الشريدة المراقبة من خلاله. لقد رسمت هذا الصبي وجعلته يطل من لوحتي يومياً ليبقى بمثابة ذاكرة دائمة لي، تحذرني من الانجراف في آلية المجتمع الاستهلاكي فأخسر نفسي وروحي). (من نص الحوار الذي أجراه أحمد فرحات مع الرسام ناجي العلي عام 1982 ولم ينشر إلا عام 1987). لقد كان فن الكاريكاتير متعة ناجي الوحيدة، وعزاءه الوحيد الذي به واجه حصارات الآخرين. ولعل ذلك بالفعل هو ما يجعله فناً قوياً وفعالاً في خطابه وفي وصوله إلى الهدف من إنجازه.

ذو صلة