في تاريخ المنطقة يمثل الفلكلور الشعبي الوجه المشرق لحياة الشعوب، ويعكس الصورة التاريخية والتراثية لها، وما تختزنه مادياً وروحياً. والمجتمع الشعبي له ممارسات تعبر عن حياته الترفيهية، وتسلية النفس في خصوصية لكل مجتمع، وما ورثه عن أسلافه من الفنون المختلفة المتجذرة في أعماق الحياة الاجتماعية، والتي تعبر عن خلجات روحه كوسيلة للتسلية والترفيه.
ويختزن المجتمع الشمالي من بلادنا العديد من ألوان الفلكلور الشعبي المتوارث محفوظاً في ذاكرة الأجيال على تعاقبها، تعكس روعة ما كان عليه الأجداد والآباء في الماضي. فتعد الفنون الشعبية في شمال المملكة من الصور الجميلة التي تعطي صورة عن خصوصيته في جانبه الفني وموروثه الشعبي. واشتهرت الحدود الشمالية بعدة ألوان في الجانب الفني الشعبي، فإلى جانب فن العرضة وفن السامري المعروفين على نطاق واسع من بلادنا؛ هناك العديد من الفنون التي تشتهر بها المنطقة على وجه الخصوص، ومن أهمها: الدحَة. الدحَة أيقونة التراث الشعبي الشمالي الدحَة أهزوجة شمالية بحته تشبه إلى حد كبير زئير الأسود أو هدير الجمال، وتتميز بأنها تجمع عدة فنون خلال أدائها كالشعر واللعب والتمثيل بحركات أدائية خاصة. نشأة الدحَة اختلفت الروايات حول سبب نشأة الدحَة، ولم تذكر كتب التراث أي شيء عنها، غير أن ما يروى حول قصتها هو ما يذكره كبار السن مما عرفوه عن سابقيهم من الأجيال الماضية. وأشهر ما يتداول من روايات حول نشأتها تتمثل في قصة قديمة دارت أحداثها قبل الإسلام بين العرب والفرس، عندما لجأت هند بنت النعمان بن المنذر في العراق لقبيلة بكر بن وائل هرباً من بطش كسرى فارس الذي أراد إهانة القبائل العربية والزواج ببنت النعمان عنوة، فلم تقبل العرب بذلك حمية ونخوة وشيمة، فتداعت جموع القبائل العربية من كل حدب وصوب رغم أنهم يعرفون أن لا قبل لهم بجيش كسرى المنظم عدة وعتاداً، واجتمع الجيشان في مكان يعرف بذي قار، وكان العرب يقومون بممارسة الدحَة ليلاً مع إيقاد النيران حولهم فلما بعث الفرس استكشاف وضع جيوش القبائل، دب في قلوبهم الرعب من المنظر، فولوا أدبارهم هاربين من هول ما شاهدوه من طقوسهم. وفي رواية ثانية أنه التقى الجيشان في مكان يعرف بـ(ذي قار)، واستطاعت القبائل العربية إلحاق الهزيمة بجيش كسرى بحيلة، حيث استدرجوهم إلى مكان صحراوي لا ماء فيه، بعدما تزودت جيوش القبائل العربية بالماء الكافي، فهلك جيش كسرى من العطش، فأثخن العرب بهم القتل، واحتفلوا بهذا النصر بممارسة الدحَة. والرواية الثالثة في نشأة الدحَة تقول إن هناك عدداً قليلاً من الرجال ساروا بجمالهم للرعي، وبعدما حل الظلام عليهم سمعوا أصواتاً قريبة منهم، وذهب أحدهم ليستكشف فوجد أناساً مسلحين يريدون الغنيمة منهم، ولا يمكن مواجهتهم، وعلم أولئك الناس أن قد أرسلوا من يستكشف أمرهم، فعمدوا إلى حيلة توهم عدوهم بكثرتهم، فقاموا بإصدار أصوات قوية كزئير الأسود مع صفق الأيدي، فظن العدو أنهم جيشاً لكثرة أصواتهم وجلبتهم فتركوهم مولين الأدبار. وعرفت تلك الممارسة بالدحَة، وفيما بعد أدخلوا فيها الشعر والرقص بالسيف المعروف بالحاشي. جغرافية الدحَة ينتشر أداء لعبة أو أهزوجة الدحَة في نطاق واسع بين قبائل شمال المملكة، كما تمارس لدى بعض القبائل في الأردن وسوريا وفلسطين، وتختلف مسمياتها بين الدحَة والدحَية. وطريقة ممارستها شبه متقاربة، سوى في بعض حركات الأداء. طريقة أدائها تتمثل طريقة أداء الدحَة بأن يصطف الرجال إلى جوار بعضهم البعض بصف واحد يفوق عددهم عشرة أشخاص، ويسمون بـ(الرواديد)، لأنهم يرددون الأبيات، ويقف أمامهم الشاعر الذي يبدأ بقصيدة شعرية بقافية ثابتة ذات مفردات سهلة، يبدع فيها شاعر الدحَة ما يحلو له، مع التزامه بقاعدة الشطر الأخير من الكوبلية الأول من مجموعة البيت الأول، ويكون موضوع القصيدة في كلماتها سردي مقفى بشكل قصصي لوصف معركة أو للمدح أو الهجاء أو التوجد. وأحياناً تكون محاورة شعرية أو تبادل في الأبيات بين شاعرين، يفصل بين ترديدهم للشعر قول المجموعة (الرواديد): هلا هلا به يا هلا.. لا يا حليفي يا ولد ثم تأخذ أصوات الرجال في الدحة بترديد: د حيه.. د حيه بأصوات متداخلة وبنشوة تأخذ بالازدياد مع صفق الأيادي وارتفاع أصواتهم شيئاً فشيئاً بانسجام تام، ويميلون برؤوسهم يميناً وشمالاً، ويخطون كالجمال. مناسباتها تؤدى الدحة في مناسبات الأفراح كالزواج والمهرجانات الشعبية والسياحية والوطنية. وللدحة حضور كبير في مهرجان الجنادرية كل عام، ولها جمهور عريض يأنسون بها ويشاركون فرق الدحة في الأداء.