مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

دمشق في الذاكرة الأندلسية

عندما وصل الأمير عبد الرحمن (الداخل) بن معاوية بن هشام بن عبد الملك إلى الأندلس، وبذر النواة الأولى للحضارة الإسلامية الشامية فيها؛ حرص منذ قيام دولته عام 138هـ/756 م على تجديد ما اندثر من حضارة بني أمية في المشرق، ونقْلِ النظم الإدارية المعروفة في المشرق الإسلامي في العهد الأموي، وتطبيقها في الأندلس تطبيقاً مشابهاً وعملياً على نحو يثير الإعجاب.

وكان من الطبيعي أن يتأثر أهل الأندلس بأبرز مظاهر الحضارة الإسلامية في الشام، فالحياة الأدبية في الأندلس كانت صدى لحياة الشام الأدبية.
والحياة الاقتصادية من زراعية وصناعية وتجارية اعتمدت على الوطن الأم ثم تميزت بعدها بمميزات جديدة، فالمزروعات التي عرفت في بلاد الشام انتقلت إلى الأندلس، وإذا كان الفضل يعود إلى الشاميين في نقل هذه الغروس إليها؛ فإليهم يعود الفضل من جهة أخرى في نقل واعتماد وسائل الري في الأندلس. ويبدو دور الشام كبيراً في مجال تطوير الصناعة في الأندلس؛ لأن معظم الصناعات التي انتشرت واشتهرت فيها كانت معروفة في بلاد الشام. أما التجارة فبقيت من الحرف الرائجة بينهما بشكل حيوي وقوي، وكان التجار من كلا القطرين الشامي والأندلسي يجوبون سواحل البلدين محملين بالبضائع، ويشكلون تعاملاً اقتصادياً ملحوظاً رغم انعدام الصلات السياسية.
والواقع أن الداخل حاول أن يجعل من عاصمته قرطبة صورة من دمشق، من حيث منازلها البيضاء ذات الأحواش الداخلية وأشجارها وقصورها ومساجدها ومواقع مبانيها. وفي ذلك يذكر المقري في نفح الطيب أن الداخل  «لما تمهد ملكه شرع في تعظيم قرطبة», فجدد مغانيها، وشيد مبانيها، وحصنها بالسور، وابتنى قصر الإمارة والمسجد الجامع ووسع فناءه، وأصلح مساجد الكور، ثم ابتنى مدينة الرصافة وجعلها منتزهاً له، واتخذ بها قصراً حسناً، وجناناً واسعة، نقل إليها غرائب الغراس، وكرائم الشجر من بلاد الشام وغيرها.
وقد أظهر الأمير عبد الرحمن حنينه إلى وطنه ومسقط رأسه من خلال أشعاره وأسماء قصوره، لذا نجد أن عصره خضع للتأثيرات الشامية بصورة واضحة، وظهر ذلك من منشآته التي أقامها بقرطبة تجديداً لملك أجداده في المشرق، كي يصبغ الحضارة الأندلسية بالتقاليد الشامية لتكون استمراراً وامتداداً لحضارة الأمويين في بلاد الشام.
ويذكر المقري أن عبد الرحمن الداخل «لما استقر أمره وعظم؛ بنى القصر بقرطبة وبنى المسجد الجامع، وأنفق عليهما.. وبنى بقرطبة الرصافة تشبهاً برصافة جده هشام».
ولقد حاول عبد الرحمن الداخل ومن جاء بعده حتى عصر الخليفة عبد الرحمن الناصر 350هـ؛ أن يجددوا في الأندلس ما طمس من آثار بني أمية في المشرق من معالم الخلافة، وما انقرض من آثارها، وأن تطعم الحضارة الأندلسية بالتقاليد الشامية حتى تكون استمراراً لحضارة بني أمية في الشام، وتدفقت بعد ذلك التيارات الحضارية القادمة من الشام في كل مجالات الحياة.
وكان أهل الأندلس يتفقهون على مذهب الإمام الأوزاعي (إمام أهل الشام)، ثم انتقلوا إلى مذهب الإمام مالك. ولقد اجتهد حكام الأندلس في رعاية مختلف العلوم والفنون، فجمعوا فيها أعلام العلماء وسادات الفضلاء، حتى صُنفت التصنيفات الفائقة، واقتُنيت الكتب النادرة، وجُملت المباني والحدائق؛ فأصبحت الأندلس بحق منافسة لبلاد الشام.
المؤثرات الشامية في الحياة الأندلسية
فُتِحت الأندلس سنة 92هـ/710م على يد القائد طارق بن زياد، وظلت بذلك إحدى ولايات الدولة الأموية حتى سقوطها سنـة 132هـ، وارتبطت الأندلس ببلاد الشام ارتباطاً وثيقاً، وكثر أهل الشام في الأندلس خصوصاً بعد دخول طالعة بلج بن بشر القشيري سنة 123هـ/740م مع آلاف من أهل الشام وجند مصر، واستقرت غالبية هذا الجيش في الأندلس، وكل مجموعة استقرت في الموقع الذي يشبه إقليم بلدهم؛ فأقام أهالي دمشق في البيرا (غرناطة)، وأهالي حمص بالقرب من أشبيلية، وأهالي قنسرين في جيان.
وعلى صعيد المؤثرات الشامية والتشابه بين الشام والأندلس، فقد تبين أن موقع مدينتي غرناطة وقرطبة يشبه إلى حد كبير موقع مدينتي دمشق وبغداد، فدمشق تقع على الضفة اليسرى لنهر بردى، وقرطبة تقع على الضفة اليسرى لنهر الوادي الكبير، ويطل على دمشق جبل قاسيون بينما يطل على قرطبة جبل الشارات، بالإضافة إلى التشابه بين البلدين في بيوتهما وأساليب الحياة فيهما، وقد صدق قول الجغرافيين العرب بأن الأندلس شامية في هوائها، وشامية في حياتها، ومن ذلك قول المقري في نفح الطيب: «الأندلس شامية في طيبها وهوائها، يمنية في اعتدالها واستوائها، هندية في عطرها وذكائها، أهوازية في عظم جباياتها، صينية في معادن جواهرها، عدنية في مناخ سواحلها..»، أما شكيب أرسلان فيقول نقلاً عن الشقندي: «غرناطة، دمشق بلاد الأندلس، ومسرح الأبصار، ومطمح الأنفس، ولم تخل من أشراف أماثل، وعلماء أكابر، وشعراء أفاضل». وغرناطة من أحسن بلاد الأندلس وتسمى بدمشق الأندلس لأنها أشبه شيء بها، ويشقها نهر حدرة، ويطل عليها الجبل المسمى بشلير، وقد نزل بها أهل دمشق لما جاؤوا إلى الأندلس لأجل الشبه المذكور.
الشاميون في الأندلس
أرسل الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك كثيراً من القبائل العربية التي سكنت بلاد الشام إلى شمال إفريقيا للقضاء على ثورات البربر، وكانوا بقيادة كلثوم بن عياض القشيري، وبلغ عددهم نحو ثلاثين ألف رجل، وقد هزمهم البربر وقتلوا قائدهم كلثوم في معركة بقدورة بالقرب من نهر سبو سنة 124هـ/741م، أما الناجون منهم فقد توجهوا بقيادة بلج بن بشر -ابن أخي كلثوم- إلى جهة المغرب فدخلوا سبتة وتحصنوا فيها، وحاصرهم البربر لمدة تسعة أشهر، وخربوا المناطق المحيطة بهم، واقفرَّ ما حولها مسيرة يومين، حتى كاد بلج وأتباعه الذين كانوا يبلغون نحو عشرة آلاف أن يهلكوا من قلة موارد العيش، فاضطروا إلى أكل دوابهم وأضحوا على شفير الموت.
وكان يحكم الأندلس في تلك الأثناء الوالي عبد الملك بن قطن الفهري، وقد التمس بلج بن بشر عدة مرات من واليها أن يسمح له ولرجاله بالعبور إلى الأندلس ولكنه رفض طلبهم بشدة، وكان عبد الملك بن قطن يخشى من دخول الشاميين، وإبعاده عن ولاية الأندلس، التي كانوا يعدونها بلدة خاصة بهم، فخافوا من استقرار عشرة آلاف رجل في أراضيهم، وهكذا رفض عبد الملك كل التماسات أهل الشام، كما منع إرسال أية معونات إليهم، وعاقب بقسوة الذين تجرؤوا على شحن الأطعمة لهم، ولكن تطور الأحداث اضطر الوالي عبد الملك بن قطن إلى تغيير رأيه، فقد أثَّرت أحداث شمال إفريقيا على الأندلس، وخاصة بعد أن تمرد البربر على العرب في هذه الولاية، وعندما لم يستطع القضاء على تمردهم أيقن بضرورة دخول الشاميين إلى الأندلس، فعقدوا اتفاقاً معه على أن يسلموا إليه عشر رهائن من كل جند ضماناً لمغادرتهم الأندلس خلال عام بعد انتهاء ثورة البربر، وبالمقابل تعهد عبد الملك بنقلهم أثناء عودتهم إلى شمال إفريقيا في مجموعة واحدة دون أن يتعرضوا لحظر البربر.
فعبر بلج بن بشر إلى الأندلس، واستطاعوا أن ينتصروا على البربر فيها، وراقت لهم الحياة في الأندلس ورفضوا مغادرة البلاد. وهنا نشب صراع شديد بين أهل البلد أتباع عبد الملك بن قطن وبين الشاميين أتباع بلج بن بشر، واستمر هذا الصراع حتى وصل إلى الأندلس والٍ جديد هو أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي، وذلك سنة 125هـ/742م.
وحرص أبو الخطار منذ بداية ولايته على تهيئة جو مناسب لاستقرار الشاميين في البلاد، ولم تكن هذه المهمة سهلة، لذا فقد قام بمنح الشاميين إقطاعات من الأرض في مناطق لم يستقر فيها البلديون بعد، حتى يتمكن الشاميون من الاستقرار تحت إمرة زعمائهم، وليكونوا متهيئين للجهاد والخدمة في الجيش وقت الحاجة إليهم.
وقد جرى توزيع الشاميين في الأندلس على غرار تجمعاتهم السابقة في بلاد الشام -أي على نظام الجند، وتحرى أبو الخطار أن يكون استقرار كل مجموعة في مكان يحمل بعض التشابه للمكان الأصلي الذي كانت تنتمي إليه في بلاد الشام، فاستقر جند دمشق في البيرة، وجند حمص في إشبيلية ونبلة، وجند قنسرين في جيان، ووزع جند فلسطين بين شذونة والجزيرة الخضراء، وجند الأردن في رية. أما أولئك الشاميون الذين سكنوا في مناطق مختلفة بين البلدين قبل ترتيبات الاستقرار التي وضعها أبو الخطار؛ فقد بقوا في أماكنهم الأولى، ولهذا سموا بالشاذة ؛ لأنهم شذوا في أماكن استقرارهم عن بقية إخوانهم الشاميين.
وأدى وصول الشاميين واستقرارهم في الأندلس إلى تغيير ميزان القوى في البلاد لصالح المسلمين، ومن هنا قام أبو الخطار بإعطاء ثلثي الأراضي والمزارع إلى الشاميين، وأبقى الثلث الآخر للسكان الأصليين والبلديين الذين استمروا في الزراعة بناءً على اتفاقية عبد العزيز بن موسى بن نصير وتدمير، في منطقة مرسية.
ولم يُطالَب الشاميون بالقيام بالتزامات أخرى ما عدا الخدمة في الجيش والمشاركة في الجهاد عند الحاجة، وأُعفوا من أداء العشور على الأراضي التي يقيمون عليها، بينما كان يتوجب على البلديين وبقية المسلمين دفع هذه الضريبة، وفي العهود اللاحقة حصل الشاميون على امتيازات أخرى على حساب البلديين، الذين بدؤوا يفقدون سلطاتهم بالتدريج منذ دخول القبائل الشامية إلى الأندلس.
وكان الشاميون يتألفون من ثمانية آلاف عربي، وألفين من الموالي، وينتمون إلى مختلف العشائر اليمنية القدسية والمضرية، وإلى عشائر ربيعة، أما الموالي فكانوا ينتمون إلى أصول بيزنطية أو إلى بربر شمال إفريقيا، وقد تسموا بالموالي الشاميين تفريقاً لهم عن الموالي البلديين الذين دخلوا معهم، وكان موالي الشام على اتصال وثيق بالأسرة الأموية الحاكمة، فقد عُرِفوا أيضاً باسم موالي بني أمية. وتركز استقرار هؤلاء الموالي في البيرة وجيان، ومما يدل على كثرة عددهم في كورة البيرة إطلاق اسمهم على أحد وديانها الذي كان يعرف باسم وادي بني أمية.
أما بالنسبة إلى العشائر العربية الشامية فقد استقر العديد منها في كورة البيرة، خاصةً القيسيين. ومن هؤلاء عشائر محارب، وهوازن، وغطفان، وكعب بن عامر، وقشير, ونمير، ومرة، وفزارة، وسُلَيم. كما استقر أيضاً في منطقة البيرة بعض الأفراد الذين ينتمون إلى قبائل مضر وربيعة، ولكن عددهم لم يكن كبيراً. أما أهم القبائل اليمنية التي استقرت في البيرة وما جاورها، فهي قبيلة همدان التي كان بحوزتها إقليم كامل سمي باسمها، والذي يقع بالقرب من غرناطة، وقد استقرت بعض الجماعات التي تنتمي إلى غسان أيضاً في منطقة البيرة حيث كانت لهم قرية تُدعى غسان، واستقر قسم من هؤلاء أيضاً في منطقة أخرى تدعى وادي آشي، وقد حرص أبو الخطار على تنظيم القبائل اليمنية التي تشكل أغلبية جند حمص وفلسطين والأردن، والقبائل الحضرمية وجند مصر وغيرها، بوضعهم في الأماكن اللائقة بهم والقريبة منهم.
يقول ابن حيان: «أشار على أبي الخطار أرطباس قومس الأندلس وزعيم عجم الذمة ومستخرج خراجهم لأمراء المسلمين.. بتفريق القبائل الشاميين الغالبين على البلد من دار الإمارة بقرطبة إذ كانت لا تحملهم، وإنزالهم بالكور على شبه منازلهم التي كانت في كور شامهم. ففعل ذلك عن اختيار منهم.. فأنزل جند دمشق كورةَ البيرة، وجند الأردن كورةَ جيان، وبعضهم بكورة تدمير، فهذه منازل العرب الشاميين، وجعل لهم ثلث أموال أهل الذمة من العجم طُعمةً.. فلما رأوا - يعني العرب الشاميين- بلداناً شبه بلدانهم بالشام؛ نزلوا وسكنوا واغتبطوا، وكثروا وتمولوا».
وصفوة القول إن الشاميين الذين أتوا مع بلج أصبح لهم مركز مميز، فهم رجال الأجناد وأهل الديوان، أُعطوا الأراضي، واستمروا في الزراعة، وأعفوا من العشور؛ فصارت الدولة الإسلامية الأندلسية، شاميةً بعد مجيء بلج، وأصبح أهل الشام هم أصحابها وذووا المكانة العليا فيها، وهذا ما يعرف في تاريخ الأندلس بالتقليد الشامي، وقد تمسك أمراء بني أمية بأصولهم وعاداتهم الشامية على طول تاريخهم، حتى أن الأمير محمد رفع الشاميين فوق غيرهم، وقرر لهم ذلك امتيازاً حافظوا عليه حتى منتصف إمارة عبد الرحمن الناصر على الأقل.
ذو صلة