مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

رسائل البحر لداود ينافس على الأوسكار

اختارت لجنة الأوسكار التي شكلها وزير الثقافة المصري فاروق حسني ورأسها الكاتب محمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب العرب بالإجماع فيلم (رسائل البحر)، للمنافسة على جائزة الأوسكار العالمية لأفضل فيلم أجنبي لعام 2010، من بين 24 فيلماً منها (الديلر) بطولة أحمد السقا وخالد النبوي ومن إخراج أحمد صالح، و(أولاد العم) بطولة شريف منير وكريم عبدالعزيز ومنى زكى ومن إخراج شريف عرفه، و(عسل أسود) آخر أفلام نجم الكوميديا أحمد حلمي وهو من إخراج خالد مرعي، و(كلمني شكراً) أول بطولة مطلقة لعمرو عبدالجليل بمشاركة غادة عبدالرازق وإخراج خالد يوسف.

(رسائل البحر) أخرجه وكتب له السيناريو داود عبد السيد, وشارك في بطولته النجم آسر ياسين، وهى بطولة جاءته بالصدفة لدور كان مرشحاً له النجم الراحل أحمد زكي الذي توفي قبل البدء في تصوير العمل، إضافة إلى بسمة وحسن حسني ومحمد لطفي، وتقع أحداثه في مدينة الإسكندرية.
لا يقدم الفيلم حكاية واحدة، وإن قدم بطلاً تأسى لحالته وتنتظر بشغف لحظة انتصاره، بل يقدم مجموعة من الحكايات والإحالات التي ترسم بدلالاتها الرمزية الثرية صورة لعالم يحفل بالتناقض والقسوة والادعاء. ويرصد تحولات طالت المجتمع المصري في العقود الأخيرة، وأثّرت بشكل خاص على الطبقة الوسطى، وهي الموضوع الأثير للمخرج داود عبد السيد، وقد سبق له تناولها في فيلمه البديع (الكيت كات) المأخوذ عن رواية (مالك الحزين) للأديب إبراهيم أصلان, ولعب بطولته محمود عبدالعزيز، وكذا فيلميه (أرض الأحلام) لفاتن حمامة ويحيى الفخراني، و(البحث عن سيد مرزوق) من بطولة نور الشريف.
يحيى (آسر ياسين) طبيب شاب يعانى من مشكلات في النطق تجعله موضوعاً لسخرية زملائه، وتبقيه عاجزاً عن التواصل مع الآخرين، يحب الموسيقى، بسيط، واضح، يرفض أن يحصل على أشياء لا يستطيع دفع مقابلها، رمز لزمن يولي، مفسحاً مجاله لزمن آخر يتسيده الحاج هاشم (صلاح عبدالله) الذي يريد أن يشترى المنزل القديم (الذكريات والذاكرة)، ليشيد بدلاً منه مجمعاً تجارياً، وهو ما يحيلنا إلى حالة (صبحي) بائع الطيور الذي قرر بعد أن أثرى في زمن الانفتاح أن يشترى بيت الشيخ حسني الضرير، ليقيم مكانه عمارة من عشرين طابقاً في (الكيت كات).
يقف بنا داود عبد السيد في معظم أفلامه عند تخوم عالم يزول وآخر يتشكل، كي نتابع بعين الكاميرا البصيرة مصائر أبطاله الذين يسحقهم واقع شرس يخالف طبائعهم البسيطة، فيفقدون توازنهم، لكنهم يتشبثون بالأمل، وهو ما نلحظه في مشهد الختام، حيث يبحر قارب صغير بالحبيبين، وسط بعض من ضحايا الحاج هاشم، أسماك قتلها بالديناميت، كي يجمع أكبر قدر منها في شباكه، غير عابئ بتدمير مصدر للثروة يتعيش عليه الآخرون.
طبيعة يحيى التي ترفض الزيف والكذب، تناقض تماماً رجل الأعمال المزواج (أحمد كمال)، الذي يبقى على زوجة ثانية (بسمة) في موقع أقرب كثيراً من عشيقة، فتقرر باختيارها أن تتحول إلى مومس، باحثة عن المتعة بمقابل ودون مقابل.
قابيل (محمد لطفي)، تفارق صورته لدى الناس طبيعته الطيبة البريئة، لكن ملامحه المخيفة هي التي تؤمن له كسب العيش فلا ينكرها، وإن أقسم في قرارة نفسه ألا يؤذى أحداً، ثم الفتاة الطليانية الشاذة التي تعترف لصاحبتها في لحظات النشوة أنها اختارتها وتخلت عن يحيى لكن في المكان الخطأ، فهي تعيش بعواطفها وعقلها في إيطاليا، وهو ما دفعها إلى هذا الاختيار الذي تنكره تقاليد مجتمع شرقي.
يعرف داود جيداً لغة السينما باعتبارها فناً بصرياً بالأساس، فيقدم لك متعة بصرية رائقة تغلفها موسيقى مميزة لراجح داود, تحيل إلى ذكريات وحالات قصوى من الشجن والشفافية، وكأنك تشاهد لوحة من الفن التجريدي، تترك ألوانها وخيوطها ومساحات الكتل والفراغ فيها تأثيرات تحسها لكنك تجهل أسبابها، وربما هذا هو بالضبط ما أراده داود، ليترك فينا انطباعاً، ويحرك بداخلنا شجوناً، ويغرس -ربما- أملاً لا نعرف على وجه اليقين مصدره.
دواد عبد السيد المولود في القاهرة عام 1946، مخرج قليل الإنتاج قياساً لعمره وخبراته السينمائية، فهو تخرج في المعهد العالي للسينما عام 1967، وعمل مساعداً لكبار المخرجين مثل يوسف شاهين وكمال الشيخ, وأخرج عدداً من الأفلام التسجيلية التي قرّبته كثيراً من واقع الناس المعاش، قبل أن يقدم لنا عدداً من الأفلام التي على قلّتها تعد علامات في السينما المصرية (الصعاليك، الكيت كات، البحث عن سيد مرزوق، سارق الفرح، مواطن ومخبر وحرامي، أرض الأحلام، أرض الخوف).
اختيار (رسائل البحر) نجاح كبير للمخرج وأبطال العمل، وبصرف النظر عن قدرة الفيلم في المنافسة على أوسكار أفضل فيلم أجنبي؛ فإن الاختيار في حد ذاته يعنى انتصاراً لنوعية مغايرة من السينما بشّر بها منذ ربع قرن داود ورفاقه محمد خان وخيري بشارة وشريف عرفه والراحل عاطف الطيب، سينما جادة وجميلة، يصنعها مخرجون يمتلكون رؤى في الحياة والكون، في مواجهة سينما تجارية يسيطر عليها النجوم والنجمات، وتحتشد بافيهات وكوميديا ساقطة، تتبخر فوراً، ما أن يغادر المتفرجون قاعات العرض.


ذو صلة