عندما كنا نحضر بالدار البيضاء ندوة جامعية تكريمية للباحث والمفكر محمد أركون لم يخطر ببالنا ولا ببال كل من حضر هذه الندوة أنها ستكون الأخيرة من نوعها في حياته، وأن لقاءنا به في ذلك اليوم سيكون اللقاء الأخير، فقد توفي الرجل بعد ثلاثة أشهر من ذلك اللقاء، وفاجأت وفاته كل أصدقائه ومحبي ومتابعي فكره الخلاق، وبصفة خاصة أولئك الذين شاركوه يوماً دراسياً بكامله.
بدا لنا أركون، وقد تابع كل العروض التي كانت مبرمجة في تلك الندوة مرتاحاً لما لاحظه من معرفة الباحثين المشاركين بفكره وبدعوته المنهجية للتجديد في الدراسات المتعلقة بالفكر الإسلامي ولتحليل القضايا العربية والإسلامية. وكان يتمنى –في كلمته- أن يعمل الباحثون على نشر الأفكار التي يتضمنها ما كان بالنسبة إليه مشروعاً فكرياً انشغل طيلة حياته العلمية بالدعوة إليه وبإنجاز بعض جوانبه، وكان بكلامه هذا يعبر عن وعيه بأن برنامجاً علمياً مثل الذي كان يدعو إلى إنجازه لاتسعه جهود وحياة فرد واحد، بل إنه يأخذ معناه الحق عندما يصبح عاماً تتعلق به جهود باحثين كثيرين، كما كان الكلام الذي قاله أركون دالاً على وعيه بأن قيمة برنامجه تظهر عندما يجد ذلك البرنامج شروط الاستمرار بعد نهاية حياة صاحبه.
لكي نفهم البرنامج العلمي الذي كان أركون يدعو إليه ويعمل على إنجازه، ويتمنى إشراك غيره من الباحثين في هذا الإنجاز، نرى من الملائم البحث في الخلفية الشخصية وفي الشروط الحضارية العامة التي تحرك فكره في إطارها. والخلفية التي نبحث عنها شخصية نفسية وعقلية تلعب دور الحافز الذي يدفع الباحث نحو إنجاز بحثه وإلى البحث في سبل ذلك الإنجاز. إنها ما يدفع الباحث نحو الالتزام الداخلي الشخصي بالاتجاه بفكره بكيفية دائمة ومستمرة نحو العمل ضمن برنامج معين يجعل منه رهان حياته العلمية في الجامعة وخارجها.
نفهم هذا الرهان الذي تحدثنا عنه من خلال حياة محمد أركون والمحيط المجتمعي الذي مارس ضمنه إنتاج المعرفة في ميدان محدد، ويتمثل هذا السياق الخاص للخطاب الذي صدر عن محمد أركون في ذات عارفة تراوحت بين إطارين غير متوافقين: الثقافة العربية الإسلامية من جهة في ماضيها وحاضرها على السواء، ثم الحضارة الأوروبية الغربية من جهة أخرى في وضعيتها الراهنة باعتبارها ما يفرض ذاته كنموذج للحضارة والتقدم والحداثة. عاش أركون شطراً أول من حياته في بلده الأصلي المنتمي إلى الضفة السفلى من البحر الأبيض المتوسط، والمنتمي أيضاً إلى الثقافة العربية الإسلامية. وهناك تلقى تكوينه الأول بما في ذلك التكوين الفلسفي. ولم يغب عن شخصية أركون بعد ذلك أثر نشأته الأولى وتكوينه الأصلي، فكان ذلك من مكونات فكره والإشكالات التي أثارها. رحل أركون بعد ذلك إلى بلاد تنتمي إلى الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط هي فرنسا من أجل استكمال تكوينه. وقد ذهب أركون في هذه المرحلة إلى مداها بحصوله على أعلى الرتب، إلى أن وصل إلى التدريس في الجامعات الفرنسية حيث سار بعد مدة من ذلك أستاذاً بالسربون, وهي أرقى الجامعات الفرنسية، وصار ضمن ذلك رئيساً لقسم الدراسات الإسلامية، أي القسم الذي يعنى بدراسة كل مايتعلق بالعالم الإسلامي تاريخاً ولغات وتكويناً بشرياً ومشكلات ثقافية ومشكلات مجتمعية وحضارية. هذا كله تكوين جديد أضيف إلى التكوين الأول، ولكنه انصهر معه في فكر واحد يلقي السؤال ويبحث عن الإجابة التي تخص مشكلات إنسانية معاصرة، حتى وإن كانت تخص جهة من العالم.
تأثر أركون بالثقافة الفرنسية خاصة والأوروبية عامة، ليس في ذلك ولا فيه إنكار من جانب هذا الباحث نفسه الذي كان في كثير من الأحيان يعلن عن مراجعه الفكرية.
وهنا نتحدث عن الموقف الذي نعتبره خلفية لفكر أركون، وقد بينا في السابق أن هذه الخلفية تتمثل في توتر فكره لأنه كان مشدوداً في نفس الوقت إلى ثقافتين متعارضتين تكونتا أساساً لصراعات مختلفة في مستواهما ومستوياتهما، ونعني بذلك الثقافة الإسلامية من جهة، والثقافة الغربية من جهة أخرى.
وقد رأى أن وظيفة العقل الإنساني العربي الإسلامي من جهة، والغربي من جهة أخرى، العمل من أجل تجاوز كل مظاهر الأحكام المسبقة والتأويلات المتعسفة، وكذلك الصراعات المدمرة، نقد المعرفة الناتجة عند كل طرف عن الآخر لتخليص التفكير الإنساني من كل تلك الصراعات الفكرية التي ترجع إلى قرون، ولتحقيق معرفة صحيحة عن الآخر قد تمهد السبيل لتعاون يكون في صالح الإنسانية جمعاء. طلب أركون من الذات العربية الإسلامية ممارسة نقد للمعرفة التقليدية لتأسيس معرفة جديدة بنفسها وبالغير، ولكنه طلب من الذات الغربية مراجعة أحكامها العامة وذات الطابع المسبق والإيديولوجي.
المعرفة المتبادلة الجديدة وحدها قادرة على أن تكون الشرط المسبق لكي يكون هناك حوار إيجابي بين الثقافات المتواجدة في العالم المعاصر. شكلت هذه الفكرة العامة الحافز الذي وجه أركون بصفة خاصة إلى دراسة الفكر الإسلامي في تاريخه، وذلك ضمن محاولة تتضمن نقد الخطاب كما تتضمن نقد العقل المنتج للخطاب. وقد بحث أركون في المنهج الذي يمكن استخدامه لإنجاز هذا المشروع، فوجد أنه منهج قابل للتشكل من تقنيات البحث المتطورة في ومن المفاهيم التي تم وضعها في مجموع العلوم الإنسانية خلال القرن العشرين بصفة خاصة.
وقد وضح أركون في مناسبات متعددة الجهد المطلوب من الفكر العربي والإسلامي المعاصر عامة إن هو أراد التجديد في معرفته بذاته وبالغير. فعلى الباحث في الفكر الإسلامي وفي الوضعية الراهنة للعالم الإسلامي أن يتجاوز البحث الذي يكتفي بتحقيق النصوص ليبدأ البحث الذي يوضح تلك النصوص ويبحث العلاقات بينها ويخرج بخلاصات عامة. ويقتضي الأمر من الباحث في هذا المستوى أن يقرأ كل ماينتج عن الفكر الإنساني بلغات مختلفة، كما أن عليه أن يوظف الدراسات اللسانية والاجتماعية والأنثروبولجية والتاريخية، وهو ما يعني أن على الباحث في الفكر الإسلامي القديم والمعاصر اكتساب ثقافة في مجمل العلوم الإنسانية لبلوغ الغاية التي يريدها من بحثه. وأصبح التجديد في مناهج الدراسة ضرورياً من أجل تكوين معرفة جديدة. كما أن على الباحث الذي يريد أن يكون له دور في فهم قضايا العالم المعاصر دراسة تاريخ الشعوب الأخر، وتطبيق مناهج العلوم الإنسانية كافة.
لاحظنا أكثر من مرة، ومنها ما كان بحضور أركون نفسه، أن حظ الدعوة إلى المنهج فاق حظ التطبيق لديه. لكننا كنا نجد العذر له لإيماننا بأن كل مؤسس لطريق جديد في المعرفة لايمكن أن يكون هو ذاته الذي يقوم بكل التطبيقات الممكنة. فتلك مهمة باحثين آخرين. وفوق ذلك، فإن إنتاج أركون لم يكن يخلو من تطبيقات أطلق عليها الإسلاميات التطبيقية. نجد ذلك في كتابه عن نشأة النزعة الإنسانية في الفكر الإسلامي كما يظهر ذلك من خلال كتابه في الموضوع، ثم بعض الدراسات التي حللت نصوصاً من الفكر الإنساني.