الجيل في الثقافة لا يعرف بالعمر والسن رغم أن لكل فترة زمنية عمرية إبداعاتها وتوجهاتها الثقافية والفكرية. وفردياً قد يكون الشاب مرتبطاً ثقافياً ومسجوناً بالماضي أكثر من شخص أكبر منه في العمر والعكس. والحداثة في الفكر والثقافة قد تتأثر بالمكان وثقافته ومدى تقبله للتغيير والتحول والمسايرة لكل مستجد وجديد.
وقد تتصارع الأجيال وينتج من صراعها نوع من التضاد في الثقافة والأفكار وقد ينتج من هذا التضاد نوع من الصراع حول الهيمنة الأبوية التي قد يرفضها الجيل الجديد. وقد يفيد هذا الصراع في بلورة وخروج ثقافة مفيدة جديدة أو العكس. كما يحدث في كتابات الشباب الجديدة والتي قد يبالغ بعضها في الغلو والتطرف وقد يصل ذلك لدرجة معاداة العقيدة والدين كما ظهر ذلك في روايات بعض الشباب في الأجيال الحديثة. الحنين إلي الماضي كان دائماً وسيظل ديدن الإنسان لأن الحاضر قد يصدمه ولأنه يبحث في الماضي دوماً عن هويته الضائعة ويرى فيه ملاذاً لحل مشكلة الانتماء وبخاصة إذا كان يعيش في المهاجر والمنافي البعيدة. وقد ظهر ذلك في الرواية والقصة والشعر الذي يكتبه المنفي برغبته أو بغير رغبته خارج وطنه. وهي مدرسة جديدة في الكتابة خصوصاً في الرواية. وتجلى ذلك في الرواية التاريخية أكثر من غيرها. وليس معنى ذلك أن الحنين إلى الماضي مقصور على المهاجر فقط وإنما ذلك موجود في الجبلة الإنسانية وهي ظاهرة تثري الأدب والكتابة.
ما يقود إلى صراع الأجيال هو اختلاف الثقافات ومدى تقبلها من جيل لآخر. واختلاف الثقافة نعني به التحولات الجديدة في الأفكار والنظرة للوجود وسرعة تقبلها أو مجابهتها ورفضها. وسرعة التقبل تأتي من الجيل الجديد أكثر من الجيل القديم ولعل مردّ ذلك يأتي من تعامله مع التكنولوجيا وتواصله السريع مع الآخرين وسرعة تقبله للثقافة التي تأتي من خارج مكانه ومختلفة عنه ومن هنا يأتي الصراع والاختلاف. والمطلوب هو تجسير وتضييق الهوة بين الأجيال لأن وجودها يسبب الرفض وعدم قبول الآخر. وهذا يؤدي للتطرف، والتطرف يعمي صاحبه فلا يرى غير ذاته ولا يعترف بغير ثقافته وأفكاره. ولأن تضييق هذه الهوة فيه نعمة التعايش الثقافي والفكري الذي يؤدي إلى البناء والتقدم ويقلل من الصراع النفسي بين الشباب الذي قد لا يجد ولا يعترف بالقدوة والمثال.
تسمية الأجيال أضرت كثيراً بمسيرة الشعوب العربية وأقعدتها، بل قد عطَّلت أجيالاً كاملة وعقَّدتها وجعلتها مسؤولة عن ماضيها وعن عثرات الحاضر الذي تعيش فيه، بل جعل بعض الأجيال يعيش في وهم أن ما يحدث في الحاضر هو مسؤولية الماضي وهذا أكبر خطأ. وهو خطأ التحقيب الزمني للأجيال. وحتى جيل التكنولوجيا هو من صُنع الكبار وخلاصة أفكارهم التي طورتها الأجيال الحالية، فالأفكار تتكامل وتتواصل وكل جيل يسلمها للآخر حتى تصل الحصيلة لخير الإنسانية.
ليست هنالك حضارة تقوم على الحاضر فقط وإنما تقوم الحضارات دائماً وفق الاستفادة من إرث الأولين وأفكارهم والتي يأخذ الجيل الجديد خيرها ويطوره للأحسن والمفيد فالتقدم هو تكامل بين الأجيال ليس غيره.
فهم البعض خاطئ في عالمنا، العالم الثالث بأن الحداثة هي رفض الماضي والانطلاق من جديد في بداية منفصلة وليس لها علاقة بالماضي. وقد تجلى ذلك أكثر في مجال الأدب وأجناسه المختلفة أكثر من مجالات الإبداع أو الفكر الأخرى. وهذا كان فخاً وقع الكثيرون في شباكه وأصبحت علاقتهم بماضيهم مقطوعة ودخلوا في شد وجذب بل في رفض للكثير مما تركه الأقدمون من إبداع ومن قيم أدبية وتراثية عريقة. وبخاصة في مجال بحور الشعر وأوزانه والتي حافظ علم العروض على القيم الجمالية والمعيارية التي حافظت على أن تظل للشعر هيبته التي تبعده عن المجانية والابتذال. وهذه الحداثة التي فهمها البعض على أنها قطيعة بين الماضي والحاضر هي التي أضرت وأدت إلى بعض من النفور من أنصار القديم وأنصار الحداثة والتجديد البعيد عن المحافظة على القديم والبعيد عن التفكير في تطويره مع المحافظة على المفيد والجديد منه. وبجانب مدارس الحداثة ظهرت مدارس الإحياء. ومحاولات التحديث والتجريب والتي قد لا تُعتبر معارك وانقساماً وانفصاماً بين الأجيال إذا كان الهدف منها تطوير الحاضر بالاقتداء بأسس الماضي إذا كانت سليمة وقابلة للتطوير والتجديد.
ولا يخفى على المطلعين أن الأجيال الآن للأسف دخلت في مرحلة خفية وغير معلنة في صراع مع بعضها وبخاصة في مجالات جدُّ حساسة ومنها المعارك السياسية، والرفض لسلطة الكبار والتي يحملونها الفشل في وصول الأجيال الجديدة لسدة الحكم والمشاركة في اتخاذ القرار في مجالات الحياة المختلفة. والبعض من الجيل القديم يرون بأن الجيل الحالي أقل خبرة وتجربة في الكثير من المجالات، بل يتهمونه بالانصراف عن التحصيل الثقافي والأكاديمي ومن هنا تتولد أفكار عدم الثقة والحلم بالتغيير، ولو كان هنالك تبادل ثقافة وتقارب للأفكار، ومنح للفرصة من الطرفين لتغير مجرى الأمور إلى الأفضل.