أأفاقَ صبٌّ من هوىً فأفيقا
أو خان عهداً أو أطاع شفيقا
أبو عُبادة البحتري
بين حجاب المعاصرة، وطموح اللاحق، وخوف السابق على مكانته ومنزلته، تتجسد الحياة بكل تقلباتها، ويظهر صراعٌ بيّنٌ بين الأجيال، وليس الأمر مقتصراً على جيل دون آخر، ولكنه سنن الحياة وسنتها.
ما تعلق بقصيدة البحتري التي منها البيت أعلاه، لا يبعد كثيراً عما نحن بصدده، فكثير من كتب الأدب تخبرنا أن البحتري قصد أميراً من أمراء عصره، يمدحه بقصيدة عصماء، وفي المجلس أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، فلما أتم إنشاده، قال أبو تمام: أيها الأمير، إن هذا الشعر لي وقد مدحتك به، فأنشد عدداً صالحاً من الأبيات. قال البحتري: حتى شككني والله في أن القصيدة له، فانكسرت، ورأيت الغضب في عين الأمير، ولما تبيّن الرجل أني لم أعرفه، قال: أيها الأمير، هذا الشعر لهذا الفتى ولم أسمعه من قبل، وقد ظننته يستخف بمكاني وينشد في حضرتي. فقلت له من الرجل أعزه الله؟ قال حبيب بن أوس. فانكببت أقبل يديه وبين عينيه.
ولا يهم كثيراً إن كانت القصة حقيقة أم وضعها القصاصون، فما أكثر ما وضعوا! ولكنّ في هذا القصص المبثوث في كتب الأدب العربي غنىً جمّ الفائدة، فما من قضية اجتماعية، إلا ولها نظير في القصص العربي، الذي فهم طبيعة الحياة العربية بكل تقلباتها.
ما كان بين البحتري وأبي تمام يدخلنا مدخل صدقٍ للحديث عما يكون بين جيلين: جيل سابق اجتهد حتى ينقش على جدران التاريخ رسومه، فأفنى شبابه حتى بلغ أعلى الدرجات، وجيلٍ لاحقٍ، تدفعه ذات المطامح إلى ذات الغاية، فعندها ينشب الصراع المحموم، حين يظن السابق أن اللاحق لا همّ له إلا إزاحته واحتلال منزلةٍ تعب وكدّ ليبلغها. وإن كانت القصة قد بدأت بالعُقدة المركزية، وهي قصدُ أبي تمام إحراج هذا الفتى لمّا ظنه يتطاول على مكانته ومنزلته، فقد حملت في جوهرها حلّاً لا غناء للأجيال عن اتباعه، إذ لما علم أن البحتري لم يرمِ إلى هذه الغاية، وأنه ما كان يعلم أن الرجل هو أستاذه أبو تمام، ولما علم قدَره حقّ قدره، صار صنيعُ أبي تمام هو المفتاح الذي فتح للبحتري أبواب الشهرة والذيوع، إذ وجهه إلى معرة النعمان ليمدح أعلامها، وقد وقع له رقعة تقرظه وتبين منزلته من الشعر.
وما حدث بين الطائيين قريباً
من الذي حدث بين التميميين: جرير والفرزدق، فلما نعى الناعي الفرزدق، قال جرير:
مات الفرزدق بعدما جدّعته
ليت الفرزدق كان عاش طويلا
ثم بكى حتى تعجب الحاضرون، ورثاه بأبيات غاية في الإنصاف، منها:
لعمري لقد أشجى تميماً وهدها
على نكبات الدهر موتُ الفرزدق
عشيةَ راحوا للفراق بنعشه
إلى جدثٍ في هوة الأرض معمقِ
لقد غادروا في اللحد من كان ينتمي
إلى كل نجمٍ في السماء محلقِ
وقد نقل ياقوت الحموي في معجم الأدباء قول جرير:
(أما والله إني لأعلم أني قليل البقاء بعده... وقلما مات ضد أو صديق إلا وتبعه صاحبه). فزعموا أن جريراً مات بعد الفرزدق بأربعين ليلة.
فإن كان يصدق على جرير والفرزدق حجاب المعاصرة -على أن كل واحد منهما كان يقرّ بعظمة صاحبه ورسوخ قدمه في الشعر، إلا أن التنافس الشديد بينهما لم يجعل أحدهما يشهد لصاحبه بحسنة إلا ويرى أن حسناته فوق ما أثبت لصاحبه- فإن ما كان بين البحتري وأبي تمام يصدق عليه صراع الأجيال، وصراع البقاء.
مهما يكن من شيءٍ، فإن في نفس كلّ إنسان غاية يسعى لها في الحياة، وكل إنسان يسعى إلى التفوق وتخليد اسمه بما عرف به في الحياة، فالتاجر يريد أن يثري أكثر من غيره من التجار، والطبيب يريد أن يكون صاحب اسم مشهور بين أقرانه، على أن هذا الأمر أشد وضوحاً بين الأدباء، لأن بضاعتهم خالدة لا تزول.
والأمر الملحوظ أن الذين يهتمون لأمر الأجيال اللاحقة: يقيلون عثارهم، ويأخذون بأيديهم نحو المجد والرفعة، هم الأقل خوفاً على مكانتهم، والأكثر طمأنينة بأن خلودهم يرتبط بتلامذتهم أكثر من ارتباطه بهم. فما من رجل خالدٍ بعد موته إلا ولتلاميذه نصيب وافٍ -ربما يفوق علمه أو أدبه- في تخليده. والعكس صحيح، فإن الذي يسد الأبواب في وجه اللاحقين خوفاً على مكانته، فهو جاهل بقانون الحياة، وسيأتي يوم ينكسر فيه الباب الذي كان حريصاً على سدّه، ثم لن يأسف عليه أحد. ومثلما قال إيليا أبو ماضي:
فمن يغرس لكي يجني سواه
يعِشْ، ويموتُ من يحيا ليجني
ولأن الإنسان يدرك نعمة ما هو فيه بعد فقدها، فما من أحد إلا ويرى في الماضي إكسيراً من السعادة لا ينضب، وليس الأمر لأن الماضي كان جميلاً، بل لأنه كان شاباً قويّاً فتيّاً، وهو يرى الآن ما أهدر من فرصٍ، فيحنّ لماضٍ يرى فيه شبابه ونعيم دنياه وصفاء ذهنه من الكدر والهم:
وحبّب أوطان الرجال إليهمُ
مآرب قضّاها الشباب هنالكا
على أن كثيراً من الناس يجهل أمراً مهمّاً من هذا الماضي المبكيّ عليه، وهو أن الإنسان قد اكتسب كثيراً من الأشياء في حاضره، من: علم، ومعرفة، وتجارب ثرّة، لم تكن في الماضي البعيد موجودةً، وهو ينسى عمداً أنه إن عاد به الزمان إلى ماضيه سيعود صفر اليدين من كل أيادي حاضره المجحود، فمن أراد أن يجمع بين عصرين فأولى أن يجمع بين يومه وغده، وهذا ميسور جدّاً بغرس المطامح في الجيل اللاحق وهذا ما ينفع الأمة ويُعلي مكانتها بين الأمم، لأن الجمع بين اليوم والأمس محال، ووحده المعلم هو الذي يتمنى صادقاً أن يكون تلميذه أفضل منه درجات ودرجات، وصدق أشرف الخلق حين قال: (العلماء ورثة الأنبياء).
وما أصدق ما قال شاعر السودان المقدّم صلاح أحمد إبراهيم، في مطولته التي تعد بلا شكّ معلّقة الشعر السوداني (نحن والرّدى) ملخّصاً هذا الأمر تلخيصاً محكماً لا مزيد عليه:
(كل جيلٍ بعده جيلٌ
ويأتي بعد جيلْ
بليت جدته مرتقباً: في غبطة، أو غفلةٍ، أو قلقِ
فقعة الآمال في جيل بديلْ طالعٍ أو طامعٍ مستبقِ
أمس قد كنا سقاة القومِ بالكأس المريرْ، وغداً يحملنا أبناؤنا كي نستقي
فالذي تخلى له مضيفة الدنيا
سيُدعى لرحيلْ
حين يبدو قادم في الأفقِ
وكلا الذاهب والقادم في دفترها ابن سبيلْ).