يوَلد الاختلاف في الرؤى بين جيلين مختفلين صراعاً واضطراباً في العلاقة القائمة بين الآباء والأبناء تصل إلى حدود التأزم ببعض المجتمعات تحت وطأة التفسير المتباين لتفاصيل الحياة اليومية بما يكونها من عادات وتقاليد يتمسك بها الجيل الأول، ومقومات جديدة للحياة العصرية يتأقلم معها الجيل الثاني وهو ما يبرر الاتهامات المتبادلة بعدم الفهم والتقصير إما لروابط اجتماعية عريقة يعتبرها الآباء أصولاً لابد من التمسك بها، أو تطورات تواكب العصر يعتبرها انزياحاً كلياً أو نسبياً عن مسار الحياة الأسرية الطبيعية التي تستوجب العيش داخل إطار ما يوطد علاقتنا بماضينا وما فيه من تفاصيل تتعلق بالدين والسياسة والتاريخ والحضارة والهوية والفكر والأدب والفن...
تعتبر الطريقة المختلفة للفهم من أبرز أسباب هذا الصراع إذ يتهم الأب ابنه بعدم الفهم الصحيح لمقومات العيش لحظة تخليه عن تفاصيل راسخة لحياة جيل سبقه، مع انعدام احترام القيم والعادات والتقاليد فيراه قليل الخبرة غير ملتزم بما يؤسس مجتمعاً راكزاً ثابتاً على أصوله الثقافية والاجتماعية بعد تخليه عن خبرة جيل أكبر، له من التجارب ما يخول له ترسيخ سبل عيش أفضل، بينما يتهم الأبناء الآباء بالتأخر والرجعية وعدم القدرة على تقبل الجديد ومواكبة العصر بالتزمت والتشدد والديكتاتورية في فرض آراء وأفكار لا تتماشى مع العصر بما فيه من تقدم تكنولوجي وثقافي. هكذا يشتد الصراع، ويشتد أكثر مع كل ولادة لجيل جديد داخل العائلة الواحدة باعتبارها النواة الأولى المكونة للمجتمع، فالتباعد الكبير في السن والفوارق العمرية بين الأجداد والأحفاد تخلق تضارباً فكرياً وتبايناً يولد تجاذبات وتناقضات لم تتوقف عند حدود الذوق والأكل وطريقة اللباس بل طالت الأدب والفن والثقافة بميلاد أجناس أدبية جديدة غير معترف بها من قبل المتذوقين للأدب القديم، وقد ظهرت أنماط فنية بكلمات يصعب استيعابها وفهمها من عقول أجيال سبقت، كما تقدمت الثقافات وتطورت سبل وطرق التواصل بين مكونيها ومكوناتها بدعم من التقدم التكنولوجي المذهل الذي سهل التبادل والتواصل وجعل من العالم قرية صغيرة يسهل على كل فرد أن يجوب شوارعها واكتشاف تفاصيل حناياها الثقافية بكل أنواعها، كل هذا لا يراه الجد إلا هدراً للوقت بلا فائدة ترجى إذ يتوقف تفكيره في حدود الممارسات العادية للحياة كما عاشها دون تغيير أو تطوير، ومن هنا تنطلق (المقاومة) إذ نجد الابن في حلقة صراع مع ذاته التي يحاول نحتها وتطويرها للوصول بها الى درجة مقبولة من المعرفة من جهة، ومع أفراد عائلته ومجتمعه من جيل سبقه من جهة أخرى، يقاوم بمفرده هذا الضغط المسلط عليه من جيل أكبر من أجل تحقيق حريته في الاختيار حسب ما يتماشى مع عصره.
من مظاهر الصراع بين الأجيال، تلك الفجوة الثقافية العميقة التي قد ندرجها كنتيجة حتمية لهذا الصراع أيضاً والتي تتمحور حول تباين واضح في مستوى التعليم الذي شهد تقدماً كبيراً من حيث المواد المدرسة واللغات والأدب وطرق تحليل المعلومات بمنظومات علمية حديثة لم يكن لها أثر في الجيل السابق مما ولد مناصب ومراتب جديدة بتوسع سوق الشغل وامتداده ليشمل المرأة ويتجاوز حدود الأوطان إثر اشتغالها بمواقع مهنية وإدارية تفرض عليها التواجد خارج خارطة الوطن الواحد وهو ما يشكل فجوة جيلية واضحة الأبعاد تنطلق من داخل الأسر التي تتكون من أجيال مختلفة يتحدث أفرادها لغات متعددة ويمارسون طقوساً حياتية مختلفة، إذ يستعمل كل جيل لغة عامية جديدة خاصة به فيها ازدواجية للغات عدة يتعلم قواعدها من الجد والأب وأخرى من خلال حياته الدراسية وأخرى عبر التعامل اليومي مع أفراد مجتمعه على تعدد لغاتهم مما يولد تباعداً نسبياً أو كليا ًعن اللغة الأم التي يتكلمها الأب والجد ومن هنا يتسع مفهوم الفجوة أو الهوة بين الأجيال على عدة مستويات إذ لا يعترف الأب القارئ والمتذوق والكاتب للقصيدة العمودية بقصيدة النثر كجنس أدبي حديث فيراها مجرد حشو لكلمات بلا معنى ولا إيقاع، خالية من أبسط المقومات الجمالية للنص بعيدة عن البنية المتعارف عليها للقصيدة، كما لا يعترف بـ(الراب) كفن يصور به بعض متذوقيه خلايا المجتمع الخفية حسب تصوراتهم وطرقهم في إيصال رسائلهم التي من خلالها يصفون قضاياهم ويطرحون أفكارهم من منظور خاص بهم، بل يراه تفاهة لا يهتم بها ولا يتذوقها إلا الجاهل بالفن الأصيل الذي ظهر مع مجموعة أسماء خلدها التاريخ لتواجدها بزمن غير هذا.
فجوة تتسع مع عدم تعامل الآباء مع التكنولوجيا الذكية كعامل مسهل للعلاقات بين أفراد المجتمع والمجتمعات مع التواصل ومهاراته التي بلغت أشواطاً متطورة في ما يخص الصوت والصورة بتقنيات وتطبيقات تجاوزت الحاسوب لتشمل الهاتف الذكي وغيره من وسائل التكنولوجيا الحديثة فصنع المستحيل بإنشاء بيئة اجتماعية وراء ستار رقمي متطور بعيدة عن الأسرة، يتم التواصل فيها بطريقة رقمية حديثة لم يستوعبها الأب الذي عاش حياته يؤكد على ضرورة وأهمية التواصل بين أفراد الأسرة تقيداً بعاداتها وتقاليدها باتباع قواعد دينية تدفع الفرد فيها إلى الصلة والتقرب ونبذ كل أسباب التباعد.
يمكننا الجزم بأن الفجوة بين الأجيال ولدتها تلك الفوارق الفكرية والاجتماعية والعرفية التي تختلف نتيجة التطور والتقدم مع كل جيل، علماً أنها وجدت منذ العصور القديمة إلا أن التطور التكنولوجي المبهر الذي ظهر في السنوات الأخيرة جعلها تكون أعمق، فهي مشكلة مزمنة مع كل الأجيال وربما تكون أكثر تعقيداً مع الأجيال القادمة، خصوصاً أن كل جيل يرى نفسه الأفضل والأرقى والأكثر تطوراً، يمكننا أن نسميها (مرض المجتمعات المزمن) الذي يتوارثه ليكون سبباً في تفككه شيئاً فشيئاً، غير أن التمسك بالموروث الثقافي والحضاري مع مواكبة مستجدات العصر قد يقلص من الفجوة فيتحقق تماسك المجتمع عبر محاولة الربط بين جيلين مختلفين وأكثر، خصوصاً أن ما يشغل الناس على مر العصور هو غياب الوعي والإدراك عند الجيل السابق بأهمية ومتابعة التطورات ومواكبتها خصوصاً أن التقدم التكنولوجي والسرعة والصناعة والحياة الأكثر مدنية ورفاهية جعلت تفكير هذا الجيل أكثر انفتاحاً وقابلية للأفكار الجديدة، وهكذا تتقلص الفجوة وربما تضمحل مع الزمن إذا ما اقتنع الآباء بمواكبة تطورات الأجيال الجديدة.