يتّسع الحديث حول موضوع (الأجيال والعقود بين الصراع والتعايش) ويتشعّب وقد يتفلّت. وقد وقع تناول هذه المسألة بالدرس والتمحيص اجتماعياً ونفسياً وأدبيّاً وحضاريّاً، وطرحت فيها عديد النظريات والمقاربات. لكن، وبغض النظر عن التنظيرات الكبرى هناك مقولات يومية بسيطة في تعبيرها وعميقة في معناها في هذا المجال من مثل (الشباب شباب القلب) و(فلان سابق لوقته): هاتان المقولتان كثيراً ما تنطّان في تلافيف الكلام حين نروم الحديث عن امرِئ متقدم في السنّ ومع ذلك ما زال ناشطاً حيويّاً ومُساوِقاً لراهنه في أسلوب حياته مواكباً لما يحدث من جديد، والعكس صحيح أيضاً حيث دائماً ما نلتقي من نصفه بـ(هذا الشخص قديم) كناية عن تنكّبه يومه وانشداده إلى الماضي في أسلوب حياته من تعاملات وذوق فني ومعارف... إلخ، أو عندما نروم الحديث عن امرِئ شابّ متوقّد الذهن يفكر بطريقة (مبهرة) سابقة لزمنه وينجز في المعرفة من الفن أو العلم ما هو غير موجود أو معتاد ولافت للانتباه، أو حتى عن طفل يتحدث (حديث الكبار).
من هذا المنطلق يصعب الحديث عن أجيال متباينة الحدود بوضوح، وربط ذلك بالعقود الزمنية في تحقيب صارم وجليّ، كأن نقول مثلاً هذا جيل الستينات وهذا جيل السبعينات وهذا جيل الألفية الجديدة... إلخ.
فالجيل الذي ينسب إلى عقد زمنيّ ما بالولادة، يظلّ يتفاعل ويتعلّم ويتلوّن أيديولوجياً وثقافياً وأخلاقياً وتربويّاً (بين العائلة والمؤسسات التربوية والمجتمع) مدى ذلك العقد والذي يليه، في الحدّ الأدنى الطبيعي مع الأخذ بعين الاعتبار أنه تلقّى بالدرجة الأولى أخلاق الأجيال السابقة له وعاداتها وثقافتها ومعرفتها. ويظلّ في وضع جدل وجذب معها، تشدّه إليها ويتملّص منها حتى يقدّم إضافته الخاصّة ورؤيته الذاتية للعالم والحضارة والثقافة حتى يقول نفسه بنفسه، بلغته لا بلغة غيريّة. ولا يدخل طور الإنتاج المعرفي والثقافي إلا بعد مضي عقدين من الزمن، فمواليد سنوات السبعينات على سبيل المثال يبدؤون الإنتاج الثقافي والمعرفي والعلمي في فترة التسعينات، فإلى أي عقد ننسبهم حينها وأيّ تسمية (جيليّة) نطلقها عليهم؟
أمّا إذا سمّينا جيلاً ما، باسم جيل النكسة (جيل ما بعد 1967) أو الجيل الضائع (ما بعد الحرب العالمية الأولى) أو جيل الثورة (ثورات الربيع العربي مثلاً)... إلخ، فإنّما يكون ذلك من باب التجوّز ومحاولة الحدّ من أجل تسهيل الدّرس والفحص. فمثل تلك المنعرجات الحضارية الحادّة لا يمكن أن تقع هكذا، دفعة واحدة ومرّة واحدة.
إن إرهاصات النكسات والحروب والثورات قد تستغرق أجيالاً، ثمّ إنّ لها لحظة حدوثها التي تقاس بالسنوات أيضاً، أما تبعاتها فهي حتماً تمتد إلى أجيال وأجيال سواء بالسلب أو بالإيجاب، فلا أحد بقادر على أن ينفي امتداد تبعات النكسة مثلاً على الوضع النفسي والفكري والثقافي على أغلب الأجيال العربية من ساعتها وإلى وقت قريب، بل إن وقعها على الأجيال التالية لها مباشرة أشد تأثيراً وعمقاً من انتصار أكتوبر، لكأنّما الأجيال تتوارث المواجع والانكسارات أكثر من توارث المسرّات والانتصارات، وبخاصّة إذا جاء انتصار معزول وسط هدير من الانكسارات.
وعليه، إنّا نرى أن الجيل إنّما هو نمط حياة وأسلوب تفكير وتعبير ثقافي قد يشرئبّ إلى البعيد فيغترب وقد ينشدّ إلى الماضي فيُستلب ويَسِمُه الحنين. هذا الحنين الذي هو سمة غريزية في الإنسان حيث كلّما تقدّم به العمر إلا وحنّ إلى ماضيه كآلية دفاعية طبيعية عن وجوده ذاته والاستمرار فيه، في مواجهة التبدّل والتغيّر الذي أصبح سريعاً برقيّاً، مما يبعث إحساساً بالعجز عن الانخراط فيه لدى الجيل الأسبق مهما حاول اللحاق والإدراك.
هذا الإحساس بالعجز لدى الجيل السابق/ الراحل يولّد وعياً بأن الحياة بكل تجلياتها تتجاوزه وبأنه يُدفع إلى الزاوية الباردة منها، فيستنجد بثقافته وأدبه وفنّه ولباسه وذائقته ومعرفته ونوع طعامه... إلخ وينسبها إلى الزمن الجميل أو يسمها بالخلود، مُعلياً من شأنها معتبراً أنه لا يمكن أن يكون هناك أفضل مما كان، وأنّ الأفضل أنجز وتمّ وعلى الجيل اللاحق/ القادم أن يعيد إنتاجه وحسب وذلك في مواجهة هذا الجديد الطارئ والطارد له.